توفي بطرس بطرس غالي في أحد مستشفيات القاهرة عن عمر يناهز 93 عاما. ولا حاجة للقول إن الراحل كان دبلوماسيا مخضرمًا، وكان عربيًا وحيدًا تربع على عرش أعلى منظمة عالمية بصفته أمين عام الأمم المتحدة لخمسة أعوام.
ولأنني كانت تربطني بهذا الرجل الفذ، علاقة صداقة قديمة ترقى إلى العلاقة العائلية، أريد أن أشهد بأنه كان رجلا ذا مبدأ إنساني عميق. وكان من القلائل الذين استطاعوا اعتلاء سلّم الشهرة بسبب كفاءته وحنكته ومزاولته الدؤوبة في العمل السياسي والاجتماعي والإنساني والتعليمي لعقود من الزمن.
وعندما كان الأمين العام للأمم المتحدة، لم يقبل التقاعس عن الدفاع عن القضية الجوهرية العربية، القضية الفلسطينية، وهذا الموقف كان وراء عدم تمديد ولايته الثانية خلافًا لمعظم الأمناء العامين للأمم المتحدة.
وإذا أردت سرد مآثر ومفاضل صديقي الكبير بطرس، يمكنني أن أكتب كتابًا. لكنني هنا أريد الإشارة إلى نقطة خاصة، وهي موقفه حيال الظلم الذي وقع على اللاجئين الإيرانيين في مخيم أشرف أعضاء منظمة «مجاهدي خلق».
معروف أنه بعد نقل حماية مخيم أشرف من قبل السلطات الأميركية إلى الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي في العام 2009 اشتدّت المضايقات على السكان، وشنت القوات العراقية تنفيذًا لمطلب نظام الملالي، هجومًا وحشيًا عليهم في يوليو (تموز) من العام 2009. وبعدها في 8 أبريل (نيسان) 2011 جاءت القوات العراقية بكل ما لديها من قوة للسيطرة على المخيم ولارتكاب المجزرة بحق جميع السكان أو جعلهم يستسلمون. لكن السكان رجالاً ونساءً بأيد فارغة وبأبدانهم، وإرادتهم طبعًا، سجّلوا صمودًا بطوليًا فريدًا من نوعه رجالاً ونساءً، وأرغموا القتلة على التراجع، لكن بعد تقديم أكثر من ثلاثين شهيدًا وأكثر من ثلاثمائة جريح.
في هذا التوقيت هرعت بصفتي رئيس اللجنة العربية الإسلامية للدفاع عن سكان أشرف إلى صديقي بطرس غالي طالبًا منه التدخل، خاصة أن مجزرة رهيبة أخرى كانت تلوح في الأفق.
وبعد شرح القصة بالوثائق والمستندات لم يتلبّث الرجل في المبادرة، فكتب رسالة إلى خلفه في الأمم المتحدة بان كي مون شرح فيها أحقية قضية المعارضة الإيرانية، وبشاعة التصرف اللاإنساني من قبل «وكلاء النظام الإيراني». وحذّر من مجزرة جديدة في «أشرف»، لأن النظام الإيراني يريد قتل جميع أعضاء وأنصار «مجاهدي خلق».
وأعتقد أن هذه الرسالة شهادة تاريخية لشخصية بطرس غالي وأصالته الإنسانية السياسية من جهة، ومن جهة أخرى شهادة على الظلم الذي وقع على المقاومة الإيرانية خلال هذه السنوات. وفي وقت لم يتفوه أحد من المسؤولين لإدانة هذه المجازر بحق أناس كانوا ولا يزالون ضيوفًا في دولة عربية، نرى أن شخصية عربية فريدة من نوعها تدافع عنهم. وهذا الدفاع هو دفاع عنا نحن العرب جميعًا. لأن «مجاهدي خلق» أصحاب قضية عادلة، ويحملون راية السلام والأخوة وراية إسلام مستنير إنساني في وجه وحش التطرف والدجل والإرهاب باسم الإسلام.
وهنا أستميح القارئ العربي بنقل ترجمة رسالة السيد بطرس غالي بتاريخ 9 يوليو 2011 إلى بان كي مون.
«عزيزي السيد الأمين العام،
مخيم أشرف، مقر إقامة 3400 من أعضاء المعارضة الإيرانية، منظمة (مجاهدي خلق) الإيرانية، كان هدفًا لهجوم قاتل في أبريل 2011 حيث قتل عشرات ومئات آخرون أصيبوا بجروح (وقد أكدت الأمم المتحدة إثر زيارة إلى المعسكر بأن 34 لقوا حتفهم، ولكن منذ ذلك الحين لقي اثنان آخران حتفهما نتيجة لإصاباتهما). وفي حادثة سابقة مماثلة في يوليو 2009 قتل أحد عشر شخصًا وأصيب 500.
وأدانت الكثير من الحكومات بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج، وكذلك المفوضة السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، نافي بيلاي، هذه الغارة على مخيم أشرف. وأكدت السيدة بيلاي في بيان أصدرته أنه (يجب أن يكون هناك تحقيق مستقل)، ودعت البارونة آشتون أيضًا نيابة عن الاتحاد الأوروبي إلى إجراء تحقيق.
منذ نقل حماية أشرف إلى السلطات العراقية عام 2009. كان المعسكر تحت الحصار. وكل الدلائل تشير إلى أن هجومًا آخر يلوح في الأفق. وأعلنت الحكومة العراقية أن مخيم أشرف سيتم إغلاقه بحلول نهاية العام، مما يجعل السكان أكثر عرضة للخطر.
وقد أشاد المسؤولون في النظام الإيراني، بمن فيهم وزيرا الخارجية والمخابرات، بالهجوم ودعوا الحكومة العراقية لشنّ هجوم آخر للقضاء على المخيم وسكانه.
ولا يمكن للمجتمع الدولي أن يسمح بسربرينيتسا أخرى تحدث أمام أعينه. وقد بات العالم على علم تام من احتمال وقوع كارثة إنسانية أخرى في نطاق أوسع من ذلك بكثير.
اقتراح إعادة إسكانهم داخل العراق غير منطقي تمامًا ولن يحل المشكلة. وفي الحقيقة إن النقل القسري للسكان ليس غير قانوني فحسب، بل يعتبر تمهيدًا لمجزرة أخرى ضد السكان، كما هو هدية للنظام الإيراني ووكلائه في العراق لتحقيق هدفهم المتمثل في القضاء على سكان أشرف.
واستنادًا إلى تجربتي في المنطقة، ونظرًا لخطر مأساة إنسانية وشيكة أخرى، فإن الوضع الحالي في أشرف يتطلب اتخاذ إجراءات فورية. وفي هذا السياق، ونظرًا لدور الإدارة الأميركية في التطورات العراقية منذ عام 2003. وأيضًا نظرًا للالتزامات التي هي تابعة لهذا الدور على الصعد القانونية والسياسية والأخلاقية، أدعو إلى نقل كل السكان الـ3400 من أشرف إلى الأراضي الأميركية باعتبارها طريق انتقال موثوق به وأنسب طريق لضمان حماية سكان أشرف.
بطرس بطرس غالي».
ولا يسعني هنا إلا أن أعرب عن أملي في أن يصبح بطرس غالي قدوة لرجال السياسة، في الدول العربية والإسلامية.
* رئيس اللجنة العربية الإسلامية للدفاع عن سكّان أشرف
TT
ذكرى طيبة لبطرس غالي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة