التاريخ قد يعيد نفسَه، ولكنْ بأشكالٍ مختلفة، والمقارنةُ بين تطورات وأحداث مهمة أمرٌ يستحق الدراسة مهما تباعد الزمان أو حتى المكان. ففي عام 1099، وضمن هجومهم على المشرق، أنشأ الصليبيون الأوروبيون دولة القدس، التي ضمت في مرحلتها الكبرى كامل الأراضي الفلسطينية ولبنان ونصف الأردن، وأجزاء كبيرة من سوريا، وسيناء (مصر)، واستمرت تلك المملكة نحو مائتي عام (قرنين من الزمن).
وكان الحكامُ الإفرنج يسيطرون على كل شيء، أمَّا السكان الأصليون، الفلسطينيون والعرب، والمسلمون، واليهود، وحتى بعض المسيحيين الشرقيين... فكانوا طبقة سفلى مهمشة.
إذن ما الذي أدَّى إلى انهيار تلك المملكة الكبيرة القوية، والتي كانت تتلقى دعماً اقتصادياً وعسكرياً غير محدود من القوى الأوروبية؟
هناك أسبابٌ عدة حسب أقوال أغلب المؤرخين:
أولاً: خلافات داخلية متعددة بين كثير من الفصائل والطوائف المختلفة (الدادية، والإستبارية والنيوكون)، كما أنَّ الاختلافات شملت نوعية الدولة (دينية أم قومية وأيهما له الأولوية؟)، فمثلاً تم نقل العاصمة من عكا، المدينة الاستراتيجية التجارية الواقعة على البحر، إلى القدس، لأسباب دينية بحتة، مما أثر سلباً على اقتصاد الدولة، وعلاقتها مع أوروبا.
ثانياً: الدخول في تحالفات مع الإمارات والقوى الإقليمية آنذاك وصراعاتها المختلفة (مثل حلب ودمشق أو الموصل وبغداد)، أي أنها أصبحت جزءاً من نسيج المنطقة في جانب الصراع وليس التعاون والسلم.
ثالثاً: ضعف التفاهم والتواصل بين دولة القدس الصليبية من ناحية، والقوى الأوروبية المختلفة، وهذا الضعف يعود إلى الثقة بالنفس الزائدة، والاختلافات داخل القوى الأوروبية حول أولوياتها بما في ذلك العلاقة مع دولة القدس الصليبية.
رابعاً: زيادة عدم الارتياح، بل الكُرْه من إمارات وشعوب المنطقة لدولة القدس لأسباب عدة، يأتي في الدرجة الأولى تصرفاتها وسياساتها، إضافة إلى الاختلافات الدينية والقومية.
لهذه الأسباب بدأ مسلسل سقوط دولة القدس من صلاح الدين الأيوبي إلى الخليل بن قولون، أو من القدس إلى عكا، والذي استمر مائة عام من 1189 إلى 1291، ولم تستطع الصمود في محيط ليست جزءاً منه.
ألا يذكرنا هذا بما يحدث الآن وبالذات مع حرب غزة، ويشمل هذا وقوف بعض الحكومات الغربية ضد سياسات الحكومة الإسرائيلية والتأييد العالمي الكبير لاقتراح حل الدولتين؟
وعلى المستوى الشعبي بدأت حركة كبيرة معارضة لإسرائيل ومتفهمة للقضية الفلسطينية في الغرب بما في ذلك الولايات المتحدة، وفي البداية اعتقد البعض إمكانية قمع تلك الحركات الشعبية، ولكن يبدو أنَّ هذا القمع أدَّى إلى العكس؛ أي زيادة معارضي إسرائيل، وتفهم أكبر للقضية الفلسطينية.
كما ظهرت حركة قوية ضد المنظمة الرئيسية المؤيدة لإسرائيل (إيباك) وهو ما كان صعباً في السابق.
وعلى المستوى الإقليمي فإنَّ هدف إسرائيل هو الهيمنة العسكرية والسياسية، وإضعاف الدول المركزية القوية، والتحالف مع الأقليات واستغلال الشخصيات الضعيفة.
غير أنَّ هناك جوانبَ أخرى تجعل من تحقيق هذه الأهداف أمراً شديد الصعوبة، وهي الجوانب النفسية، والخوف من المستقبل، والصراعات الداخلية، والهجرات المتزايدة للخارج، وعدم الثقة بالنفس أو بالآخرين. فالإسرائيليون يتجنَّبون استخدام كلمة فلسطين والفلسطينيين، وكأنها بلا وجود، ويستخدمون بدلاً من ذلك عبارة الصراع العربي الإسرائيلي، وبهذا يريدون إضاعة الجانب الفلسطيني وتكون القضية صراعاً بين جانب إسرائيلي يهودي (دولة صغيرة بسبعة ملايين نسمة) وجانب عربي تمثله 22 دولة يسكنها 450 مليون إنسان.
ويشمل الجانب النفسي الخوف الإسرائيلي من الرموز، مثل العلَم الفلسطيني، رغم أنَّ هذا العلَم لا يرمز إلى جانب تاريخي أو جغرافي أو ديني، كما هو حال العلَم الإسرائيلي الذي يضم نجمة داوود الدينية والتاريخية وخطين مستقيمين، ما قد يعني أن حدود إسرائيل من النهر إلى البحر أو من الفرات إلى النيل. ومن أهم الرموز لدى الفلسطينيين التي تكرهها إسرائيل هو نموذج المفتاح أو المفتاحين والذي يتم رسمه أو نحته بأشكال مختلفة ويعني مفاتيح منازلهم التي هُجّروا منها أو تم تدميرها، كما تعارض إسرائيل والمؤيدون لها استخدام قطعة البطيخة الحمراء، حيث توجد ألوان العلم الفلسطيني.
ومع حرب غزة، قامت بعض الدول الغربية بتقديم مساعدات غير محدودة منها الأسلحة بأنواعها، وكذلك المساعدات الاقتصادية والمالية، غير أن قطاعاً كبيراً من الشعوب الأوروبية والأميركية وبالذات الشباب أصبحوا يفكرون بطريقة مختلفة لها جوانب إنسانية، بدءاً من معارضة للسياسات الإسرائيلية، وبالذات فيما يخص تدمير غزة، مع إدراك الجوانب التاريخية للصراع وأهمية إعطاء الفلسطينيين حقوقهم أو بعضاً منها.
ويساوي هذا في الأهمية الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي، فلم تعد الصهيونية القديمة ذات النظام العلماني لها الهيمنة، ودخل محلها المتدينون المتطرفون.
لقد استمرت دولة القدس المسيحية قرنين، وإسرائيل لم يمض على إنشائها من قبل الدول الغربية إلا سبعون عاماً، لكنها بدأت تواجه المشاكل نفسها، فهي اليوم لديها شعور بالقوة المطلقة والمبالغ فيها وشعور بالضعف في الوقت نفسه، فهي تقول إنَّ طائراتها تسيطر على أجواء الشرق الأوسط، كما قال نتنياهو لبايدن: «إذا لم تساعدونا في حرب غزة فسوف نستولي عليها ونحرر المخطوفين باستخدام أظافرنا»، وفي الوقت نفسه تشعر إسرائيل بالضعف والخوف وعدم الثقة بالنفس من أشياء كثيرة، بما فيها الرموز كما ذكرنا سابقاً، وكذلك الإعلام بمختلف أنواعه، وهي لا تحترم الاتفاقيات والقانون الدولي، كما أنها لا تثق بالآخرين بما فيهم أغلب الدول الغربية والدول العربية التي طبَّعت معها، ولا شك أنها في وضع متناقض، تماماً كوضع دولة القدس الصليبية منذ ألف عام والذي قد يؤدي إلى نهايتها، خصوصاً مع استمرار العقلية والقيادة الإسرائيلية المتطرفة والدينية الحالية، وقد بدأ بعض المفكرين بالشعور بذلك، فجمعت جامعة هارفارد أرشيفاً خاصاً بتاريخ الدولة الإسرائيلية، وكأنها تريد أن توثقها قبل نهايتها، وهذا هو المؤرخ والباحث الإسرائيلي ديفيد باسيج، في دراسة حديثة يحذر من نهاية إسرائيل ومن منطلق التاريخ اليهودي والصراعات التي تحدث دائماً داخله. فهل تنتهي دولة القدس الصهيونية كما انتهت دولة القدس الصليبية؟ في الغالب الإجابة (نعم)، والدلائل تشير إلى ذلك، ولكن كيف ومتى؟ فذلك من الصعب التكهن به، كما أنه يتوقف في الغالب على التصرفات الإسرائيلية وموقف حلفائها الغربيين.
