يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

«عليها ومنها السلام ابتدا»... عن سردية التجربة السعودية

استمع إلى المقالة

«عليها ومنها السلام ابتدا»، هذا المقطع من أول قصيدة وطنية رسمية مُغَنّاة قبل السلام الملكي، تكثّف بشكل غير مسبوق تَموضُع المملكة العربية السعودية اليوم أكثر من أي وقت مضى، فهي قِبلة الإسلام والسلام، وبوصلة التحولات في الشرق الأوسط، ورمّانة الميزان لمستقبل المنطقة.

اليوم الوطني الـ94 في لحظة تاريخية، ومفارقة زمنية وتاريخية، تقترب هذه الدولة المجيدة المملكة العربية السعودية من إكمال قرن على واحد من أعظم المشروعات في المنطقة، وهو «التوحيد» بمعناه المفاهيمي الشامل، وما يمثّله من تجربة فريدة واستثنائية في تحوُّل نوعي يمتدّ إلى بلاد شاسعة مترامية الأطراف، مغيِّراً في تركيبة مكونات معقّدة وشديدة الاختلاف والتمايُز، استحالت إلى مزيج متآلِف ونسيج مؤتلف في رؤيته لذاته، وعلاقته ببيت الحكم السعودي العريق، حيث عاش معه ومن خلاله تجربةً حضارية تستمد قوتها من التاريخ، وتستوحي من صلابة الجغرافيا كينونتها، ومع ذلك تطمح إلى التجدّد المستمر لمقاربتها الوجودية على مستوى الثقافة والعيش والاقتصاد؛ وهي مفارقة إذ تتجاور العَراقة المقدسة باعتبارها قِبلة أكثر من مليار ونصف مليار مسلم؛ تسعى بشكل حثيث صوب المستقبل، لا سيما بعد انبعاث مشروع الرؤية الطموحة 2030 التي نعيش اليوم نتائجها وثقافتها وتأثيرها، وصولاً إلى التحديات التي لم تزِد السعوديين إلا ثباتاً وإيماناً بقيادتهم ودورهم.

ثمة إرث سعودي كبير تحرسه روح الأجيال الجديدة، من الشباب الذين هم جيل الرؤية وصُنّاع مستقبل بلادهم، مقتدين بطموح وصفه عرّاب رؤيتهم الطموحة سمو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي وعدهم بأن طموحه وطموحهم ليس لهما حدود إلا عنان السماء.

سردية السعودية الجديدة مذهلة وثرية، لا تقتصر على إيمان السعوديين العميق بها، بل تتجاوز ذلك إلى المراقبين والمتابعين حتى من خارج السعودية، وازداد تثمين المشروع السعودي بعد ثباتها وصمودها كنموذج لفضيلة الاستقرار واللُّحمة الوطنية، لا سيما عقب ما طرحته انكسارات الربيع العربي من تحديات، حيث سطرت القصة السعودية أمثولةَ مفارَقةٍ للسائد بأطيافه ومناطقه وتنوُّعه وثرائه الثقافي والعِرقي والمذهبي، لتطرح مسألة الهويّة الجامعة للسعودية والمتجهة نحو المستقبل، فصلاً مختلفاً عن محيطها.

هناك قصة سعودية مختلفة يجب أن تُروى للأجيال، المفارقة كانت أننا اعتدنا على أن نسمعها بشكل مغلوط وصورة نمطية من الخارج، وربما بشكل ناقص أو خَجُول من الداخل، اليوم مع مكانة المملكة وموقعها الجديد ورؤيتها آنَ الأوان للسعوديين أن يكتبوا سرديتهم الخاصة؛ حيث تعيش بلادهم تجربة استثنائية تتَّصل بالتحولات العالمية الكبرى في السياسة والاقتصاد، إضافةً إلى التوترات الإقليمية المهدِّدة لاستقرار الدول وهويتها، ونزوح الكثير منها إلى دوامة من الفوضى والأزمات والاحتراب على امتلاك مفهوم أساسي، وهو ماذا يعني الوطن؟!

حرصت القيادة السعودية، بفضل تطلّعات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - الرجل الاستثنائي في فهم صيرورات التاريخ، والقراءة العميقة لواقع المنطقة، وملامسة مَعاطن الخلل في عدد من المشروعات التي جرّبَتها دول ما بعد الاستقلال - على تأسيس مفهوم جديد للاستقرار والرفاه، والإيمان بالمواطن السعودي والاستثمار فيه.

السعودية الجديدة هي ورشة كبيرة للعمل والتطلع نحو المستقبل، حيث تحوّلت المملكة بمناطقها وجغرافيتها وتنوّعها الشديد، إلى مملكة التفاصيل الصغيرة، بمشاريع ضخمة تستثمر في الداخل ونجاحات مذهلة برغم كل التحديات الكبرى.

تحوّلات السعودية اليوم مصدر فخر، ونحن نعيش ذكرى يومها الوطني، ولا يمكن لأي عاقل منصف إلا تثمينها؛ من رفع مستوى الحوكمة في مؤسسات الدولة، إلى ولوج عوالم التحوّل الرقمي، والاهتمام بخدمات المواطن والمُقيم بمستويات عالية، كجزء من النقلة النوعية في أداء مؤسسات الدولة عبر تطويرها، وتأسيس بنية جديدة للعمل المؤسسي مبنية على ثقافة مكافحة الفساد والمحسوبية، إضافةً إلى خلق أجواء وفُرَص لاقتصاد بديل لا يعتمد على موارد النفط، بل يتجاوز ذلك كله إلى البحث والتجريب في كل الإمكانات التي تستفيد من ثراء البلاد وخيراتها، خصوصاً على مستوى الموارد الطبيعية والسياحية والدينية، بهدف بناء اقتصاد مستدام.

والحال أن نقطة التحول في التاريخ الحديث للسعودية، هذه الدولة الفتية، استطاعت القفز على كل التحديات، وأبانت عن قدرتها المتفردة في دعم مسيرة الاستقرار في المنطقة، عبر سياسة حزم ورفاه محفوفة بتماسُك داخلي ما زال عصيّاً على تحليل كثير من الشخصيات التي فشلت في قراءة سر هذا التلاحم بين رأس الهرم السياسي ومكونات الشعب المتنوعة، الذي يعكسه شعار اليوم الوطني «نحلم ونحقق» الذي يقوله السعوديون بصوت عالٍ ووحدة وتلاحُم فيما بينهم يعكس عمق هذه التجربة.