عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

العراق.. هل اعتذر بلير؟

الذين كانوا ينتظرون أو يتوقعون اعتذارا من توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، عن غزو العراق عام 2003، خاب ظنهم. فعلى مدى أكثر من 12 عاما، ظل الرجل يرفض أو يراوغ كلما ضغط عليه سياسيون أو إعلاميون لكي يعتذر عن ملابسات سبقت ثم صاحبت قرار الغزو، ولكي يقول إنه آسف لما حلّ بالعراق والعراقيين، بل وبالمنطقة نتيجة لذلك. وعندما ظهر في مقابلة مع شبكة «سي إن إن» التلفزيونية الأميركية، يوم الأحد الماضي، أثار كلامه عن قرار الغزو وتداعياته اهتماما واسعا، لأن البعض حسب أنه استجاب للضغوط، وقرر أخيرا أن يعتذر، لكن سرعان ما تبين أن الرجل، وهو محام «شاطر»، وسياسي بارع، لم يقدم لمناوئيه أو لمعارضي تلك الحرب ونتائجها أكثر من كلمات قابلة للتأويل والتحليل والجدل.
أمام الأسئلة المتلاحقة عن دوره في قرار غزو العراق والمسؤولية عما حل بالبلد والمنطقة، وبروز «داعش» ودولته المزعومة، قال بلير في المقابلة مع «سي إن إن»: «بالطبع لا نستطيع القول إننا - نحن الذين قمنا بإطاحة صدام في عام 2003 - لا نتحمل أي مسؤولية عن الوضع القائم في 2015». لم ينهِ بلير جملته عند هذا الحد، ولو فعل لربما كان أعطى ذخيرة لمناصريه لكي يحاججوا، ولمناوئيه لكي يطالبوا بالمزيد، لكنه مضى ليخفف وقع كلامه السابق قائلا: «لكن من المهم أن ندرك أولا أن الربيع العربي الذي بدأ عام 2011 كان له تأثيره على (الوضع في) العراق اليوم. ثانيا أن (داعش) برز على المشهد من قاعدة في سوريا وليس في العراق».
الكلام، بخلاف الإبهام الشديد فيه، احتوى على مغالطة واضحة حول بروز «داعش» ودولته المزعومة الممتدة في سوريا والعراق. «داعش» نشأ في العراق على أنقاض تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وكان من إفرازات وتداعيات الغزو، وما صاحب تلك الفترة من أخطاء تراكمية. أبو بكر البغدادي، الخليفة المزعوم للدولة المزعومة، صعد إلى الواجهة بعد مقتل أبي مصعب الزرقاوي وأبرز قيادات تنظيمه في عمليات وغارات أميركية داخل العراق. ففي تلك الفترة ظهر ما سُمي بتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق»، الذي توسعت أحلامه ليضم الشام إلى اسمه وخططه، وليعرف بعدها اختصارا بـ«داعش». المفارقة الأكبر أن البغدادي وقع في قبضة القوات الأميركية خلال عملياتها في الفلوجة عام 2004، ومكث في المعتقل الأميركي فترة ثم خرج منه واختفى لبعض الوقت، ليظهر لاحقا مع «داعش» ويصعد لقيادته.
ما بين غزو العراق عام 2003 والثورة السورية في 2011 وقعت أحداث كثيرة، وكان العراق مسرحا أساسيا لنشاط التنظيمات المرتبطة بـ«القاعدة» أو المنبثقة عنها، التي استغلت الفراغ والفوضى، واستخدمت شعارات مقاومة الغزو ومحاربة الأميركيين والقوات الغربية لاستقطاب وتجنيد المقاتلين. من الصعب لبلير أن يأتي اليوم ليقول، ناهيك عن أن يقنع أحدا، بأن «داعش» برز على المشهد من قاعدة في سوريا وليس العراق. الحقائق واضحة، والنتائج ماثلة أمام الأعين، وإن كانت هناك أسئلة كثيرة بقيت حول ملابسات وقرارات صاحبت وأعقبت الغزو، مثل قرار تسريح الجيش العراقي، وحول كيفية ظهور «داعش» وبروز خليفته، وحول دور ودوافع عدد من الأطراف، بما في ذلك جورج بوش الابن والمحافظون الجدد في أميركا، وبلير، بل وحتى النظام السوري الذي سهل دخول المقاتلين للعراق في تلك الفترة ليحصد اليوم بعض نتائج ما زرع.
تداعيات الفوضى في العراق على المنطقة كانت كارثية، ونجمت عنها تغييرات كبيرة على الوضع الإقليمي، بما في ذلك صعود مقلق للطائفية، ولإرهاب جديد تفوق على إرهاب «القاعدة» في نواحٍ شتى. في مقابل ذلك لا يجد بلير غضاضة في الدفاع عن سياسته في تلك الفترة وعن دوره في أحداثها. الأمر الوحيد الذي اعتذر بلير عنه صراحة هو، حسب تعبيره خلال المقابلة مع «سي إن إن»، أن المعلومات الاستخباراتية «التي تلقيناها كانت خاطئة»، في ما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل في العراق. هنا أيضًا لم يدع بلير اعتذاره يمر بلا إضافة، إذ أعقبه بقوله: «إنني أجد أنه من الصعب علي الاعتذار عن إطاحة صدام».
أطراف عديدة اعتبرت أن اعتذار بلير «الجزئي» جاء استباقا لتقرير لجنة التحقيق البريطانية في ملابسات غزو العراق، وهو التقرير المعروف باسم «تقرير شيلكوت»، على اسم رئيس اللجنة السير جون شيلكوت. التقرير قد يلقي بعض الأضواء على ملابسات تلك الفترة، وقد يضطر بلير إلى اعتذار أقل إبهاما، لأنني أشك أنه سيقدم لمناوئيه ما يطلبونه من اعتذار كامل وصريح، لكن كل ذلك لن يغير الكثير بالنسبة للعراقيين أو للمنطقة التي لا تزال تكتوي بنيران تلك الفترة التي تأبى أن تنطفئ، أو تجد إجابات كاملة لكل الأسئلة الحائرة حولها.