حنا صالح
كاتب لبناني
TT

إسقاط الحصانات مدخل لتحقيق العدالة في تفجير مرفأ بيروت!

الحقيقة في جريمة تفجير مرفأ بيروت التي وقعت قبل أكثر من 11 شهراً، والعدالة للضحايا وللبنان باتت مسألة مرتبطة بـ«الحصانات»، التي تتلطى خلفها منظومة سياسية فاسدة، كرّست لعقود خلت نهج الإفلات من العقاب، غير آبهة بأن التفجير الهيولي الذي حدث في الرابع من أغسطس (آب) 2020 صُنِّف كجريمة ضد الإنسانية، وما زالت تداعياته مستمرة على حياة اللبنانيين ومعيشتهم... وأكثر من ذلك فإن استمرار هذه «الحصانات» سيمنع أي محاسبة حقيقية لمنظومة الفساد والقتل التي نهبت وأفقرت وجوّعت وغطت اختطاف الدولة وارتهان البلد وعزله عن محيطه العربي وانتهاك السيادة والدستور.
اتخذ قاضي التحقيق العدلي طارق بيطار قراراً شجاعاً واستثنائياً، فادعى بجناية «القصد الاحتمالي لجريمة القتل» وجنحة «الإهمال والتقصير»، على كل البنية السياسية والإدارية والعسكرية والأمنية وحتى القضائية لـ«نظام المحاصصة الطائفي»، المسؤول عن جريمة 4 أغسطس. كلُّ من طالهم الاتهام، وهم دفعة أولى، مشتبه بتورطهم في إهمال كبير وكانوا يعلمون وفق تقارير مرفوعة حجم الأخطار وتغاضوا عنها!
شملت هذه الدفعة رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب والوزراء السابقين وبينهم 3 نواب حاليين: علي حسن خليل، نهاد المشنوق، غازي زعيتر ويوسف فنيانوس. ووفق الأصول طُلب من المجلس النيابي رفع الحصانة عن المدعى عليهم، كما تم أصولاً طلب أذونات لملاحقة بعض كبار القادة الأمنيين السابقين والحاليين، ومنهم في الخدمة اللواء طوني صليبا رئيس جهاز أمن الدولة، واللواء عباس إبراهيم المدير العام للأمن العام. هذا الادعاء هو الأول من نوعه بتاريخ الجمهورية، كما جريمة الحرب وهي الأضخم عالمياً من خارج التفجيرات النووية، ففتح ذلك وبقوة معركة إسقاط «الحصانات» التي يتمترس خلفها أصحاب النفوذ، وهي معركة يتطلب الانتصار فيها وحدة المواطنين في الدفاع عن حق كل اللبنانيين بالعدالة.
للوهلة الأولى بدا أن منظومة الحكم أخذت على حين غرة، وهي كانت تعتقد بعد نجاحها في إبعاد قاضي التحقيق السابق فادي صوان، بأن بديله لن يقارب «الحصانات»، وربما يركز على بعض الجوانب الأمنية والإهمال! لذلك كل التجاوب الظاهري الذي أبداه بعض المدعى عليهم، كذلك ما نُسِب إلى الرئيس بري من إيجابية حيال القرار القضائي، بدا كأنه مشروط برغبة كامنة لاستيعاب الصدمة التي أحدثها قاضي التحقيق العدلي، بانتظار بلورة رؤية مغايرة للرد على القرار. سرعان ما بدأت الحملة مع بخ السموم المنسوبة مرة إلى «مرجع قضائي» وأخرى إلى «جهة قانونية»، وكلها تفتعل حيثيات وكأن المكلفين بالانتقاد هم المرجع القضائي الذي ينبغي أن يستند إليه القاضي بيطار، الذي لم ينجر إلى فخ الردود والتصريحات الإعلامية.
في هذا السياق من الملاحظ أن «حزب الله» دخل هذه المرة مبكراً على الادعاء. في السابق طالب الأمين العام للحزب حسن نصر الله علانية باعتماد نتائج التحقيق الأولى، الذي أجرته الأجهزة الأمنية، والذريعة أن ذلك التحقيق يفتح الباب لمطالبة شركات التأمين بتعويض الجهات المؤمنة! وقال في 16 فبراير (شباط) الماضي إنه على المحقق العدلي «تصحيح مسار عمله في التحقيق... إن طريقة صوان فيها ارتياب»! وخلاصة تلك الحملة آنذاك أنه تم بعد يومين فقط كف يد القاضي صوان بقرار بالأكثرية اتخذته محكمة التمييز بدعوى «الارتياب المشروع»! ومساء الاثنين الماضي عندما كانت الجهات المدعى عليها بالكاد تسلمت حيثيات الادعاء، أعاد نصر الله «النصيحة» إلى القاضي بيطار بأن يتم الأخذ بـ«الملف التقني والتحقيق الفني حول هذه الحادثة المهولة» وذلك تحت وطأة التشكيك والاتهام: «هل ثمة عمل قضائي حقيقي أم ثمة استهداف سياسي؟».
لهذا التطور الذي جاء بعد 11 شهراً على الجريمة، التي حفرت عميقاً في وجدان اللبنانيين والبيارتة خصوصاً، تفسير واحد، قد يكون تبلور قناعة ما لدى الجهة القضائية مفادها أن المدعى عليهم يعلمون من هي الجهة التي استقدمت شحنة الموت إلى بيروت، ومن هم الشركاء، وكيف تم تهريب ألوف الأطنان من «نيترات الأمونيوم» من العنبر «رقم 12»، وهل هناك مستودعات موت أخرى في لبنان وأين؟ وما صحة ما أعلنه وليد جنبلاط من أن هذه المواد الخطرة تم نقلها إلى سوريا، واستخدمت في البراميل المتفجرة التي ألقيت على رؤوس السوريين!
قصة «الحصانات» في لبنان قديمة جداً، كانت باكورتها فرض النظام السوري المحتل، قانون العفو عن جرائم الحرب بتاريخ 26- 8 - 1991 من دون الأخذ في الاعتبار أي حقوق للضحايا الذين سقطوا خلال 15 سنة من الاقتتال الأهلي. كما لم يتم التوقف عند أولوية معرفة مصير نحو 17 ألف مخطوف لا يزال أهلهم يسألون عن مصيرهم. صبّ ذلك القانون في مصلحة زعماء الميليشيات الذين استولوا على السلطة تحت الرعاية السورية، فتحولوا من متهمين بارتكاب جرائم كبرى إلى قادة طوائف معصومين وفوق القانون. ومنذ ذلك الوقت تعزز منحى «الحصانات» وما تتطلبه من «محاكم خاصة»، وحمايات من خلال تعديلات قانونية غب الطلب، حتى طويت كلياً صفحة المحاسبة والمساءلة وغابت الشفافية مع تقدم منحى تجويف الدولة وإضعافها لتسهيل اختطافها، حتى أن هناك قولاً مأثوراً لرئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة يقول: «الفساد مشرعٌ بالقانون»! والقانون كان يتم تفصيله على مقاس زعماء مافيا الحكم، والحصيلة يعرفها كل اللبنانيين ويراها العالم، فبعد السطو على المال العام والخاص، ما من متهم من منظومة الحكم التي قاطعها العالم لفسادها، لكنها متربعة على كراسي الحكم وصدور اللبنانيين مستندة إلى فائض قوة الدويلة؟
ورغم الانهيارات الخطيرة وقد بات أكثر من 70 في المائة من الأسر اللبنانية تجد صعوبة في تأمين قوتها بالحد الأدنى المطلوب، بعدما فقدت الليرة 99 في المائة من قيمتها الشرائية، ويقول تقرير حديث لليونيسيف أن 30 في المائة من أطفال لبنان ينامون من دون عشاء، يستمر المجلس النيابي في إصدار القوانين التي تمنع أي ملاحقة مستقبلاً كما تحول دون التقدم بأي دعوة لاستعادة حقوق نهبت! والمثال القانون الجديد لاستعادة الأموال المنهوبة، الذي تضمن صيغاً هجينة تفترض بأي جهة تنوي الادعاء انطلاقاً من شبهة بالنهب، أن تثبت سلفاً أن الأموال موضوع الادعاء منهوبة فعلاً، وإلاّ يسقط الادعاء ويتم تغريم صاحبه! حتى أن تعاميم المصرف المركزي تجاوزت حد القانون لجهة حماية الكارتل المصرفي من أي ملاحقة مستقبلية!
اللبنانيون أمام التحدي اليوم، تحدي التعاضد والالتفاف حول الادعاء الذي سطّره القاضي بيطار، وخصوصاً مطلب رفع «الحصانات». والأهم أنه عشية الذكرى السنوية الأولى لتفجير المرفأ، إن استمرار الحمايات بأشكالها المختلفة يكرس منحى الإفلات من العقاب، ويغلق الكثير من الأبواب التي يمكن عبرها محاسبة منظومة الفساد عن ارتكاباتها، وليس فقط المحاسبة في قضية تفجير بيروت.