فوجئ بعض المراقبين حينما دعت قمة مجلس التعاون في شهر ديسمبر (كانون الأول) 2019 إلى الإسراع في التحول الرقمي، بما في ذلك التوسع في استخدام الذكاء الصناعي. ففي خضمّ الأحداث السياسية والأمنية الخطيرة، كان من المتوقع أن يكون هذا الموضوع بعيداً عن اهتمام القمة. ولكن الأزمة التي يعيشها العالم اليوم بسبب وباء «كورونا المستجد»، أو كوفيد - 19، أثبتت أن الاستعجال في هذا التحول قد أصبح ضرورة لاحتواء الوباء ومعالجة تداعياته الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
فنجد أولاً أن هذا الوباء كشف بعض نقاط الضعف في الحوكمة وغياب الشفافية في دول كثيرة، فرأينا من دفعته الأجندات السياسية إلى تجاهل انتشار المرض أو التقليل من خطورته، أو نشر الخرافات ونظريات المؤامرة عن أسبابه، وبالتالي التأخر في اتخاذ خطوات فعالة وسريعة لاحتوائه، مما أدى إلى انتشار خطير واسع النطاق للوباء فاق قدرة المنظومة الصحية على التعامل معه. ومن الواضح أن تطور الوسائط والمنصات الرقمية يجعل من الصعب إخفاء الحقائق فترة طويلة أو تسييس الأزمة الصحية.
وقد لاحظت دول مجلس التعاون نتائج السياسات الكارثية لبعض دول الجوار وسعت إلى تفاديها بتقديم مستجدات المرض بشفافية وسرعة، بما يساعد على احتوائه، ويدفع بحوكمة أفضل تجعل اتخاذ القرارات المتعلقة بالصحة العامة مبنياً فقط على الحقائق العلمية.
ثانياً: كشف الوباء عدم جاهزية النظم الصحية في معظم دول العالم، بسبب سرعة انتشار الوباء، وعدم توفر ما يكفي من الأجهزة اللازمة للكشف عنه أو معالجة أعراضه، فضلاً عن عدم وجود لقاح له حتى الآن. وقد أدى شح الأجهزة والتجهيزات الطبية إلى الاحتكار والمنافسة غير الشريفة لدى البعض للحصول عليها. وبذلك أصبح من الضروري تجنيد كافة الجهود، على المستوى الوطني، والإقليمي والدولي، وأصبح التعاون الإقليمي والدولي ضرورة لا ترفاً.
ومن حُسن الحظ أن مجلس التعاون قد أسس منذ عقود نظاماً تكاملياً للصحة، تُشرف على متابعته الأمانة العامة للمجلس والمكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة. ومنذ انتشار الوباء في المنطقة، بدأ وزراء الصحة والمختصون في مجال الأوبئة بالاجتماع عن بُعد بصفة دورية، لتنسيق سياسات احتواء المرض ومنع انتشاره، والشراء الجماعي لما تحتاجه الحملة من استعدادات. وكانت الاجتماعات الافتراضية مُهمّة في سرعة إنجاز تلك المهام.
ثالثاً: أبرز الوباء الدور المهم للعمل التطوعي، إذ شجعت دول المجلس مواطنيها على التطوع لدعم الطواقم الطبية والمساعدة على احتواء الوباء، واعتمدت في ذلك على الآليات التي سبق وضعها تنفيذاً لرؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، التي أقرها قادة دول المجلس في ديسمبر 2015 لتشجيع ودعم العمل التطوعي. وقد آتت هذه الترتيبات أُكُلها هذه الأيام، حيث أظهرت الأخبار تطوع أكثر من 150 ألف شخص في المملكة العربية السعودية وحدها للمساعدة في احتواء الوباء. وكان لوسائط التواصل الاجتماعي دور كبير في تشجيع هذا العدد من المتطوعين، فضلاً عن تنسيق حملات التبرع بالدم وغيرها. وشجعت هذه الروح التطوعية الأطباء السعوديين على التطوع في أماكن وجودهم خارج المملكة، إذ كشفت وسائل الإعلام أن أكثر من 6000 طبيب سعودي تطوعوا في أكثر من أربعين دولة، بما في ذلك 650 في ألمانيا و280 في فرنسا.
ويعود النجاح في هذه الحملات ومثيلاتها إلى الاستخدام الذكي للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
رابعاً: أظهر الوباء ما كان مستوراً قبل الأزمة من هشاشة في كثير من النظم المالية والتجارية والتعليمية في دول العالم، فلم يتمكن الكثير من المؤسسات العتيدة من الاستمرار في تقديم خدماتها على النحو المطلوب بعد فرض حظر التجول. فلم تتمكن بعض الأسواق والصيدليات والمطاعم من تلبية احتياجات عملائها، رغم أنها قد استثنيت في الغالب من قيود حظر التجول والإغلاق، ووجدت تلك المحلات أن قدراتها الرقمية لا تتناسب مع الحجم المتزايد للطلبات، وبالمثل لم تتمكن بعض البنوك من تقديم خدماتها كاملة عن بُعد، ويشمل ذلك البنوك التجارية والاستثمارية، مما سيُعمّق من حدة الركود الاقتصادي، لأن قرارات الشراء والاستثمار مرتبطة بوقت محدد وأي تأخير فيها يعني خسارة اقتصادية للأفراد والاقتصاد الكلي. أما المستشفيات فقد حاول بعضها العناية بمرضاها عن طريق توفير التواصل عن بعد مع أطبائهم، أو اضطرت إلى تأجيل أي إجراءات طبية ليس لها علاقة بـ«كورونا».
وعلى نحو مشابه، وجدت بعض المؤسسات الحكومية أنها لم تطور إمكانيات العمل عن بُعد لموظفيها قبل الأزمة، فلم يتمكن سوى القليل من الموظفين أن يؤدوا عملهم من منازلهم، ولم تتمكن جهات حكومية مهمة من تقديم كامل خدماتها إلكترونياً. وثمة إشكال آخر في العمل الحكومي عن بعد وهو السرية، فالبرامج التجارية لا توفر حماية كافية للاتصالات أو الاجتماعات الرسمية، وتوفير اتصالات مؤمّنة يتطلب الكثير من الإمكانيات والوقت.
ولكن بالمقابل تفوقت مؤسسات صغيرة، يديرها شباب لهم خبرة رقمية متقدمة، في تقديم الخدمات التي أصبحت ضرورة في ظل الحجْر المنزلي ومنع التجول.
خامساً: أن أغلب المدارس والجامعات فوجئت بالوباء غير مستعدة للتدريس عن بُعد، وفجأة انقطع مئات الملايين من الطلاب عن التعليم إلى أن تمكنت بعض المدارس والجامعات من استئناف العملية التعليمية، جزئياً في الغالب، عن بُعد. وكانت الجامعات العريقة تنظر نظرة ارتياب إلى الجامعات الإلكترونية. وهنا تميزت المؤسسات التعليمية التي كانت قد طورت إمكانياتها قبل الوباء بتمكين الطلبة من رفد تعليمهم التقليدي بالاتصال والتعلم عن بُعد من منازلهم.
وليس هناك شك في أن الصدمة التي شكلها الوباء وأدت إلى انقطاع معظم الأنشطة الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية سيكون لها مردود إيجابي من ناحية الإسراع في استكمال بناء الاقتصاد الرقمي، للتعامل مع مثل هذه الصدمات في المستقبل.
وفي الوقت نفسه، فإن التحول الرقمي يعني بالإضافة إلى ذلك كفاءة أكثر في إدارة الاقتصاد وفي تقديم الخدمات الحكومية، وتقليصاً لنفقاتها، وتعزيز الحوكمة ومحاربة الفساد والهدر. وكان هذا ما استهدفه قادة مجلس التعاون حين نص «إعلان الرياض» في 10 ديسمبر على استكمال متطلبات التنافسية العالمية من خلال عدة عوامل، من أهمها «توظيف التقنية، بما في ذلك الذكاء الصناعي، لتطوير الخدمات الحكومية، ورفع كفاءة الخدمات المقدمة للمواطنين، ووضع مناهج دراسية متخصصة لبناء قدرات الشباب في مجال توظيف التقنية، وإيجاد فرص لخلق شركات وطنية يقودها الشباب لتحقيق ذلك، وجذب الاستثمارات في مجال توظيف التقنية من خلال بيئة محفزة وتشريعات ملائمة».
فإن تحقق ذلك التحول بسبب تجربة «كورونا»، فربّما صحّت الأجسامُ بالعلل.
7:44 دقيقة
TT
وباء «كورونا» والتحوّل الرقمي في الخليج
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة