إن الحادثة التي وقعت قبل أيام بالهجوم بالقنابل على الدورية العسكرية الروسية في عين العرب (كوباني) كانت نتيجة لنهج موسكو لتسوية النزاع السوري؛ إذ إنه رغم تظاهر روسيا بلعب دور الوسيط المحايد الذي يأخذ في الاعتبار مواقف جميع أطراف النزاع، فإن موسكو، بحكم الأمر الواقع، تعطي الأولوية لتحقيق التوازن بين مصالح اللاعبين الإقليميين الرئيسيين. ففي ظل هذه الظروف، يميل الاستراتيجيون الروس إلى تفضيل مصالح الجانب التركي على مصالح الأكراد. وبالتالي، فإن حادثة كوباني التي أسفرت عن إصابة ثلاثة جنود بجروح كانت بمثابة رسالة تحذير واضحة من الأكراد إلى موسكو، تفيد بأنه على روسيا احترام موقفهم أيضاً.
على الرغم من حقيقة أن مظلوم عبدي، قائد «قوات سوريا الديمقراطية» التي يقودها الأكراد، قد أدان - متحدثاً بالروسية - الهجوم على الدورية متهماً تنظيم «داعش» بتنفيذه، لكن من الممكن التشكيك في صدق كلماته.
أولاً، يظل من غير الواضح لماذا نفذ تنظيم «داعش» عملية في ممر بطول 10 كيلومترات تسير فيه الدوريات ذهاباً وإياباً في مواجهة الفريق الروسي - التركي بينما كان هناك الكثير من الأهداف الأسهل، من بينها الأكراد؟
ثانياً، سبق ذلك الحادث سلسلة من الاستفزازات التي قام بها الأكراد أنفسهم ضد الدوريات المشتركة. على سبيل المثال، انفجرت عبوة ناسفة خلال اجتماع للجيشين الروسي والتركي عند معبر درباسية الحدودي. وألقى السكان الأكراد في كوباني والحسكة بالحجارة وقنابل المولوتوف على الدوريات الروسية - التركية المشتركة في تعبير عن عدم رضاهم عن تنفيذ المذكرة الروسية التركية.
ومع ذلك، فإن مدى استعداد القيادة الروسية للتوصل إلى استنتاجات صحيحة نتيجة لعدم الرضا المتزايد عن وجودها في المناطق الكردية لا يزال يمثل معضلة كبيرة. في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني)، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إنه يجب على الأكراد أن يفهموا أن حقوقهم لا يمكن ضمانها إلا ضمن حدود معينة وفي إطار وحدة أراضي سوريا وسيادتها؛ ولذلك «يتعين عليهم الدخول في سلام حقيقي وكامل في حوار مع الحكومة السورية. عندما أعلن الأميركيون انسحابهم من سوريا، أعرب الأكراد على الفور عن استعدادهم لمثل هذا الحوار، ثم تحولوا مرة أخرى إلى تبني موقف غير بنّاء»، في إشارة إلى تصرفات الأكراد بعد قرار واشنطن بترك القوات للتفرغ لحماية حقول النفط الرئيسية.
إن سخط موسكو أمر مفهوم؛ فعلى ما يبدو، بعد تصريحات ترمب حول «الرحيل عن سوريا»، توقعت روسيا بجدية أن تستغل ارتباك الأكراد نتيجة للقرار الأميركي ونتيجة للهجوم التركي في شمال سوريا لإقناع الأكراد بالتوصل إلى اتفاق سريع مع دمشق يسمح لنظام الأسد بالسيطرة على المناطق الواقعة على الضفة الشرقية من الفرات. ومع ذلك، فإن الحرب الخاطفة لم تنجح، فمن خلال سحب القوات من الحدود التركية، لم تحل واشنطن مشكلة تحسين وجودها فحسب، بل نقلت بالفعل مسؤولية حل النزاعات الحالية والمستقبلية بين تركيا ومعارضتها المتحالفة، والقوات السورية والأكراد، إلى موسكو.
منطق موسكو واضح أيضاً، حيث يحاول الممثلون الروس إقناع الأكراد بالدخول في حوار بنّاء مع النظام السوري. ومع ذلك، فإنه من الواضح أن السبب في تغيير موقف الأكراد ليس لأنهم «دخلوا عنق الزجاجة» ويحاولون تجنب الحوار في أي فرصة متاحة؛ إذ إن تصورهم السلبي لمبادرات موسكو يتأثر بالكثير من العوامل المهمة.
العامل الأول، الذي غالباً ما يجري تجاهله في تحليل الاتصالات الروسية - الكردية، هو عامل تاريخي. فبالنسبة للأكراد، لا يزال رفض موسكو في عام 1998 منح اللجوء السياسي لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان جرحاً ينزف.
كان ذلك واضحاً تماماً عام 2016 عندما شنت القوات الجوية لبشار الأسد سلسلة من الغارات الجوية على المواقع الكردية في الحسكة لأول مرة منذ خمس سنوات من الحرب الأهلية. ثم حاول الجيش الروسي تحويل هذه الحلقة لصالحهم بأن لعبوا دوراً مباشراً في تسوية النزاع بين وحدات الدفاع الشعبية وجهاز الأمن الكردي «آسايش»، من ناحية، وللتشكيلات المؤيدة للحكومة، من ناحية أخرى.
ومع ذلك، لم يكن من السهل على موسكو تكثيف الاتصالات مع الأكراد. فوفقاً لمصادر مستقلة، حاولت قوات الأمن الروسية اللجوء إلى مساعدة الوسطاء - الممثلين المؤثرين والمعنيين بالجرائم التي ارتكبت بحق الشتات الإيزيدي في روسيا؛ وذلك بهدف تعزيز الحوار مع الأكراد، أو بالأحرى مع ممثلي حزب العمال الكردستاني. ومع ذلك، لم يجرِ بناء الحوار في الاتجاه الصحيح لموسكو، وفي نهاية المطاف، توصل الكرملين إلى اتفاق مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي نجا من محاولة الانقلاب في ذلك الوقت، لإضعاف النفوذ الكردي في شمال سوريا. فقد أوضحت هذه الحلقات من وجهة نظر الأكراد أن موسكو تحاول تكرار القصة مع أوجلان بخيانة الأكراد من أجل تحقيق علاقات أفضل مع أنقرة.
بالإضافة إلى ذلك، يدرك الأكراد جيداً أنه على الرغم من الموقف السلبي لإردوغان ضد الأسد، فإن دمشق وأنقرة تتعاونان تكتيكياً على مستوى الأجهزة الأمنية منذ عام 2016، بما في ذلك التعاون المناهض للأكراد. فقد كان هناك تكثيف ملحوظ للاتصالات بين ممثلي سوريا وتركيا، حتى من خلال بعض المنصات المستقلة، مثل الجزائر.
العامل الثاني هو قلة اتفاقيات «التصالح» التي قدمتها روسيا وأبرمتها مع مختلف اللاعبين في سوريا. فقد اعتادت موسكو إبرام الاتفاقيات التي توجد فيها الكثير من الفرص، والتي يمكن استكمالها بعد ذلك بتفاصيل جديدة في المفاوضات التي لم يعد يجري الإعلان عنها. ولا يزال يتعين معرفة ما إذا كانت تلك هي مرحلة الإعداد المتعمدة - بتكثيف الاتصالات في مواجهة التصعيد الحاد - أم أنها نتاج نقاط ضعف في تخطيط السياسة الخارجية الروسية. كان هذا هو الحال عام 2017 خلال مرحلة تهدئة التصعيد عندما حاولت موسكو إبراز مذكرة صريحة خلال لقاءات ثنائية دون مشاركة دمشق وإيران في حوار مع المعارضة في القاهرة.
جاء ذلك مع مذكرة بوتين وإردوغان الحالية، التي سجلت إنشاء منطقة عازلة وتسيير دوريات روسية - تركية مشتركة، لكن لم تكن هناك تفاصيل محددة. على سبيل المثال، هناك الفقرة المتعلقة بترتيب السيطرة على أجنحة المنطقة العازلة التي من شأنها افتراضاً أن تمنع الاشتباكات بين المعارضة من جهة وبين حرس الحدود السوري والأكراد المنتشرين في المنطقة من جهة أخرى، والتي كانت مستمرة منذ نوفمبر (تشرين الثاني) وتستمر حتى الآن.
لا يمكن للأكراد تجاهل تجربة روسيا في «التوفيق» بين المعارضة والنظام في الجنوب الغربي السوري. فقد جرى التوصل إلى هذا الاتفاق منذ عام ونصف العام بمشاركة روسيا والولايات المتحدة وإسرائيل. وعملت موسكو باعتبارها «شريكاً كبيراً» لدمشق على ضمان اتفاق السلام بين النظام والمعارضة، ولم تكن تلك المساعي لوقف قمع دمشق على الأراضي المستردة على الأقل للمساهمة في الحفاظ على المستوى المعيشي السابق للسكان بعد رحيل المنظمات غير الحكومية وإنهاء عمل المجالس المحلية؛ مما أدى إلى تفاقم مشكلات السكان. إضافة إلى ذلك، فإن إدخال المتمردين السابقين في الفيلق الخامس الموالي للحكومة - وهو سيناريو عرضته موسكو على الأكراد - لم يحل مشكلة الاشتباكات بين قواته ووحدات الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر، شقيق بشار الأسد.
بالنظر إلى هذه العوامل، ليس من المستغرب أن يرفض الأكراد - الذين لا يزالون تحت حماية الولايات المتحدة - صفقة سريعة مع دمشق ويحاولون المساومة لإيجاد ظروف أكثر قبولاً. وفي هذا الإطار، فإن تصريح الوزير لافروف بأن الحوار الكامل مع دمشق فقط هو الذي يمكن أن يضمن حقوق الأكراد ليس سوى مجرد إعلان سياسي ويوتوبيا صريحة. فدمشق لم تسعَ إلى تزويد الأكراد بالجنسية السورية ولم تأخذ مصالحهم في الاعتبار؛ ولذلك فإن هناك تساؤلاً جوهرياً عن السبب الذي يدفع دمشق لأن تفعل ذلك الآن، خاصة أن رعاة الأسد الخارجين يتطلعون إلى إضعاف الأكراد.
ومع ذلك، وعلى المدى الطويل، فإن التوصل إلى اتفاق بين دمشق والأكراد أمر لا مفر منه. وبالنسبة للولايات المتحدة، وكذلك بالنسبة لروسيا، من المهم أن يتم إبرامها بشروط تناسب الأكراد، وإلا فقد ينتج عنها في المستقبل نزاع دموي جديد.
لكن إذا كان لدى واشنطن حجة مباشرة - ألا تترك الجمهورية العربية السورية حتى تتم تهيئة الظروف السياسية المقبولة، فإن موقف موسكو مربك للغاية. والأهم من كل شيء هو أن مشاركة الأكراد في العملية السياسية التي تديرها موسكو هي بحد ذاتها ممكنة فقط بموافقة تركيا، وهذا يعني، فقدان الأكراد أي ظروف ومناخ مناسب في الوقت الراهن.
- خاص بـ«الشرق الأوسط»