أتى الرئيس الروسي إلى المملكة العربية السعودية والإمارات للحديث في أربعة موضوعات: اتفاق تنظيم تصريف البترول وتوازناته، وهو الذي عقده مع المملكة قبل سنوات، باعتبارهما أكبر دولتين منتجتين ومصدِّرتين في العالم - والأمر الثاني التعاون في مجالات كثيرة من التكنولوجيا إلى الزراعة إلى المفاعلات النووية للأغراض السلمية، إلى الثقافة والآثار. وإذا استطاع إقناع السعوديين بشراء أسلحة روسية «يكون أبو زيد خاله»، كما يقول المَثَل الشامي - والأمر الثالث هو ملفا اليمن وسوريا، وماذا يرى أن يقترح ويشير على المملكة وعلى الإمارات في هذين الملفين - والملف الرابع العلاقات العربية - الإيرانية وتوتراتها ومشكلاتها.
أول الملفات هو ملف الطاقة، وهو مهمٌّ جداً، لكنْ ليست فيه مشكلات كبرى لأنّ الاتفاق السابق ساري المفعول، والطرفان يتشاوران باستمرار في إدارته وتعديلاته بما لا يؤدي إلى إغراق السوق، أو إلى تعطيشه ورفع أسعاره. وقد حدثت أخيراً بعض المشكلات في «أوبك+» بأنّ دولاً من خارج «أوبك» رفضت الاستجابة لموازين السعوديين والروس، مثل فنزويلا والغابون وجنوب السودان، وأخيراً هناك قضية الحصار الذي يفرضه الأميركيون على إيران ومنعها من تصدير النفط إلاّ بالحدّ الأدنى. والسعوديون مع هذا الحصار لأنهم قبلوا بفكرة ترمب بشأن تعديل الاتفاق النووي، ولأنّ الحصار قد يفيد في إرغام إيران على التفاوض بشأن الصواريخ الباليستية، ونشر الاضطراب والعنف في الدول العربية. إنما ليس من المنتظر أن يكونَ ذلك سبباً للخلاف بين الدولتين.
أما الملف الثاني، ملف التعاون في شتى المجالات، وهي مجالاتٌ خصبة وغنية ولعدة جهات: من الاستثمار المتبادل في عدة قطاعات، وإلى الخبرات الروسية المطلوبة في كثيرٍ من التكنولوجيات. وقد قال بوتين وبعض أعضاء الوفد المرافق إنّ الروس يعرضون خبراتهم في سياق إنفاذ خطة 2030. ولذلك جرت محادثات ومفاوضات استمرت طويلاً، وأفضت إلى 21 عملية بين اتفاقٍ ومشروعٍ ومذكرة تفاهم. وسيكون غريباً ألا يعرض بوتين على السعوديين قدرات روسيا التسليحية المتقدمة، وبخاصة أنه صار واضحاً قدرة روسيا على منافسة الولايات المتحدة في نموذج S - 400 الذي اشترته تركيا بدلاً من طائرات F35 الأميركية، وأزعج الأميركيين وأوروبيي الأطلسي كثيراً. ويستطيع بوتين - تدليلاً على الحياد - أن يذكر قصور السلاح الأميركي في حادثة المواقع السعودية النفطية الكبرى والتي ضُربت بكروز والمسيَّرات. ويقال إنّ الإيرانيين استخدموا في الهجوم على المواقع بعض الإلكترونيات الروسية! وعلى أي حال؛ فإنّ ملف التعاون بين الطرفين شاسع إلى الحدّ الذي جعل الرئيس الروسي يصرّح بأنه دون المملكة يستحيل على الكثير من الدول بلوغ التنمية المستدامة.
وفي الملف الثالث تقع مسائل اليمن وسوريا وليبيا. واليمن شديد الأهمية بالنسبة للسعودية، ووجهة نظر روسيا قريبة من الوجهة السعودية. ولا شكّ أن إيران هي التي تُبقي بدعم الحوثيين على الحرب المشتعلة. لكنْ ماذا تستطيع روسيا أن تقدّم، وهل حمّل الإيرانيون بوتين مقترحاتهم للحلّ الممكن في اليمن والذي يُنهي الحرب؟ هناك القرار الدولي رقم 2216. وهناك اتفاق استوكهولم بشأن الحديدة. لكنّ الحوثيين لا ينفذون بل يزيدون الحرب اشتعالاً، وفي المدة الأخيرة لا يغيب اليمن عن خطابات خامنئي ونصر الله. وإلى السيطرة على اليمن وبحارها، هناك لدى إيران موضوع إزعاج المملكة وتهديدها من اليمن. فحتى الهجوم على المواقع النفطية من الشمال نسبوه إلى الحوثيين الذين ليس بوسعهم الحركة إلاّ من الجنوب. ولا شكّ أنّ الموضوع طُرح، إنما وكما سبق القول: هل يستطيع الروس تقديم شيء فيه؟ والسعودية والإمارات ومصر مهتمون بإنهاء الاضطراب في ليبيا. ومرة أخرى فالموقف الروسي قريب من الموقف العربي. إنما الأميركيون غير داخلين على الخط الليبي الآن، بل الأوروبيون مثل إيطاليا وفرنسا وبريطانيا: فهل يكون من بين دوافع بوتين بيع السلاح (وقد زاره حفتر)، ومنافسة الأوروبيين؟
ويبقى الموضوع السوري الأكثر تعقيداً. وروسيا رئيسية فيه. وقد فرضت إيران وتركيا نفسَيهما من سنوات. واعترفت روسيا بشراكتهما في آلية آستانة. وتشكلت أخيراً اللجنة الدستورية السورية. لكنّ السلام ما يزال بعيداً، وبذلك ذكّرتْ العملية التركية الأخيرة، والتي اجتمع العرب بالجامعة لاستنكارها. إنما الذي يبدو أنّ كلاً من الأميركيين والروس الذين سلّموا لتركيا بمساحة على الحدود لإبعاد المسلَّحين الأكراد ما اتفقوا على أي حال مع إردوغان على حدودها. وبوتين محرَج، أما الأميركي فلا يهمه شيء حتى لو اتُهم بخيانة الأكراد، إذ هو لا يريد خوض حربٍ أخرى في الشرق الأوسط. أما الروسي فيعتبر أنه مسؤولٌ عن النظام السوري، وعن إعادة التوحيد، وعن إحلال السلام، أكثر مما يبدو الرئيس السوري نفسه. ولا شك أنّ العرب مهتمون بالعودة إلى سوريا. إنما ما هو العرض الذي يعرضه الروس غير إعادة الإعمار بأموالٍ عربية؟! قد يعرضون في مقابل الأموال وإعادة اللاجئين، إمكان أن يؤثر الحضور العربي إيجاباً في إحداث نوع من التوازن؛ وبخاصة أنّ أجزاء كبيرة من الشمال السوري ليست بأيدي النظام. لكنْ لدى العرب اعتراضان: الوجودان الإيراني والتركي (وهما حليفا روسيا)، وبقاء الأسد ونظامه دون محاسبة على القتل والتهجير. وقد عمّر السعوديون والإماراتيون والكويتيون لبنان أكثر من مرة ثم استولى عليه الإيرانيون، والآن يستخدمونه ضدهم (!)، فما الفائدة حتى للشعب السوري ما دام القتل والتهجير والاعتقال، كلها أمور مستمرة، والإيراني غير مهتم إلاّ بالبوكمال والميادين لعمل ممر مع العراق، وبالقلمون حتى حمص لعمل ممر إلى لبنان، باعتبار الدول الثلاث مناطق نفوذٍ له؟ يستطيع الروسي التأثير بالطبع في تقدم الحل السياسي، كما التأثير التدريجي في إعادة النازحين. لكنه لا يضمن الانضباطين الإيراني والتركي، ولا يريد التفكير في غير الأسد للسنوات المقبلة. وهناك رجال أعمال عرب كثيرون مهتمون بالاستثمار في إعادة إعمار سوريا. ما هو العرض الروسي بالضبط، وما مدى الاستجابة السعودية والإماراتية.
ويبقى التوتر السعودي - الإيراني أو الإيراني - العربي. فالعرب ما هاجموا إيران براً ولا بحراً، ولا نشروا ميليشياتهم في الدول العربية، ولا اعتبروا نشر التشيع والتهجير واستبدال الهوية أولوية في سياساتهم. في الأمن البحري هناك الآن إلى جانب العرب الأميركيون والبريطانيون. لكنّ الإيرانيين يستمرون في الاعتداء، مباشرة أو من طريق الميليشيات. وهناك أربع دول عربية مبتلاة بهم، وثلاث دول أخرى مهددة. والباكستانيون وآخرون يعرضون التوسط. لكنّ الإيرانيين لن يصغوا إلا للولايات المتحدة إن أرادت، وللروس مرغمين بين الاستنصار والمجاملة: فهل يتقدمون للوساطة وفي أي الملفات؟
الطريق صعبٌ وطويل. وتبقى زيارة بوتين للمملكة والإمارات لافتة؛ رغم الأهوال التي عاناها أبو العلاء في الوصول إلى محبوبته:
فيا دارها بالخيف إنّ مزارها
قريبٌ ولكن دون ذلك أهوالُ
7:38 دقيقه
TT
الرئيس الروسي في السعودية والإمارات
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة