يتعاظم شكلياً الدور الروسي في سوريا، ويبدو كأن روسيا تتحكم في مسارات الحلول ومستقبل سوريا؛ إذ تبدو شكلياً، كذلك، صاحبة القوة العسكرية العظمى على الأرض، والممسكة بالقرار السياسي للنظام السوري وتوجهه، وتقوم بالتحكم في مفاتيح القرار عبر إجراء التغييرات والمناقلات في الأجهزة الأمنية والعسكرية، وتنشئ وحدات عسكرية وأمنية جديدة.
وعلى الصعيد العالمي؛ يبدو العالم كأنه سلّم لبوتين القضية السورية، وترك له تقرير مصير السوريين. وعلى المسار السياسي؛ يبدو للمتابع أن «مسار آستانة» الذي ابتدعه ويمسك به الروس هو المعوّل عليه للحلول، وتراجع وهج «جنيف» ودور المجتمع الدولي على هذا الصعيد.
هل هذه هي الحقيقة؟ وهل ما يتراءى أمام الجميع هو الواقع؟
لا أعتقد ذلك مطلقاً، بل إن الحقيقة تناقض الظاهر تماماً. أعتقد أن الواقع أن بوتين هو أكثر العاجزين في مسار الملف السوري، وأن دوره تنفيذي فقط وليس تقريرياً، وكل هذه الدعاية العسكرية الروسية على الأرض أو الإعلامية بالأخبار التي تنشرها حول دورها السياسي ودور قاعدة حميميم التي أصبحت ناطقة بلسان إيران والنظام أكثر مما هي ناطقة برغبات روسيا؛ ما هي إلا ستار لتخفي عجزها الفاضح عن التحكم بأي تفصيل في مسار الملف السوري، أو بأي جزء منه.
على الصعيد العسكري؛ تظهر حقيقة واضحة، هي أن كل الآلة الحربية الروسية بكل قدراتها تقف عاجزة تماماً أمام أمتار قليلة في سوريا إذا توفر دعم بسيط للمقاتلين فيها. وبالتالي؛ فإن كل آلتها الحربية لا تساوي شيئاً، وغير مجدية أو مؤثرة حقيقة، وما هي إلا آلة تدمير هوجاء دون هدف ولا انتصار، بل من الواضح كذلك أن إيران والنظام هما اللذان يمسكان بقرار آلة الحرب الروسية وليس بوتين. والمعارك الطاحنة شمال حماة وجنوب إدلب وفي الساحل لا تخدم أبداً المصالح الروسية، وإنما تخدم مصالح إيران والنظام؛ إذ ما مصلحة روسيا في أن تخرق اتفاقيات خفض التصعيد مع تركيا وتضعها في موقف حرج؟ وما مصلحتها في أن يسيطر النظام وإيران على هذه المناطق؟
من الواضح أن إيران تزج بالآلة الحربية الروسية والتشكيلات التي شكلتها روسيا بهذه المحرقة وتقف متفرجة تنتظر قطف ثمارها في كلتا الحالتين؛ فإن انهزمت روسيا فسيكون شيئاً جيداً لإيران في ظل التنافس وتخوّف إيران من أن ينقلب عليها الدور الروسي، وإن انتصرت روسيا؛ فإيران من يمسك بالأرض ويسيطر عليها عبر ميليشياتها بعد أن تكون القوات الروسية قد استنزفت إلى الآخر.
على الصعيد الداخلي؛ ورغم كل الدعاية التي تطلقها روسيا، فإن الإيرانيين هم من يمسكون بالأرض عبر الميليشيات والمرتزقة. إيران لديها الأموال لجمع الميليشيات وتشغيلها؛ بينما روسيا ليس لديها أي أموال لتصرفها على ميليشياتها وتعتمد في تمويلها على النظام والرواتب التي يعطيها، وهذه تمولها إيران. كما أن التغيير الديموغرافي يتسارع لمصلحة إيران؛ إنْ كان بتجنيس تابعيها ومواطنيها على أنهم سوريون، أو بالاستيلاء على الأراضي والعقارات، وبالتالي يصبح الجميع بإمرة إيران وليست روسيا. ولهذا نرى أن كل قوة روسيا لم تستطع حماية العناصر الذين جندتهم لمصلحتها في مناطق المصالحات، وهؤلاء ما زالوا يتعرضون للملاحقة والاعتقال والقتل والمحاكمات من قبل إيران والنظام، ولم تنجح مصالحاتهم مع روسيا في أن تحميهم أو تردع النظام والميليشيات الإيرانية عن ملاحقتهم. فهل يا ترى ستحد العقوبات الأميركية على النظام الإيراني من هذا الوضع، وتفك سوريا من القبضة الإيرانية؟
وعلى الصعيد السياسي؛ لم تستطع روسيا بعد أكثر من 7 سنوات على بدء مفاوضات جنيف، وأكثر من سنتين على قرار تشكيل لجنة من أجل كتابة دستور، أن تفرض على النظام الانخراط بها أو التنازل عن شرط واحد من شروطه. ودائماً كان النظام هو من يستخدم الروس لتبرير رفضه الدخول في أي مفاوضات ورفضه التنازل عن أي شرط باللجنة الدستورية، ولم تنجح كل محاولاتها للضغط على النظام لتقديم شيء يظهرها بمظهر الممسك أو المؤثر بالقرار... التي جاءت عبثاً؛ فلم يعطها النظام هذه الأفضلية. وواضح أن روسيا هنا كذلك ليست صاحبة قرار الحاسم.
وعلى الصعيد الدولي؛ لم تكسب روسيا أي شيء؛ إذ لم تعد إلى لعب دورها القديم في السياسة العالمية، ولم تُعَد عضويتها في مجموعة الدول الثماني، ولم يقبل أي طرف غربي المشاركة في مفاوضات آستانة، ولم تخفف العقوبات الأوروبية عليها، ولم يتحسن اقتصادها؛ بل على العكس ازدادت وتيرة تراجعه. ولأن موسكو تعرف حجم خسارته في سوريا، فلم تجد شيئاً لتتباهى به أمام العالم سوى أنها تحارب الإرهاب، وأمام الشعب الروسي بأنها تجرب أسلحة جديدة، مما يزيد الطلب على الأسلحة الروسية بالعالم، وأن عناصر الجيش تكتسب خبرة عملية.
في رأيي أن مؤتمرات آستانة ما هي إلا سراب خلقته روسيا لنشر وهْم أنها قادرة على إرواء عطش السوريين للأمان، وأول الموهومين بهذا السراب هم الروس أنفسهم وبعض السوريين الذين يشعرون بالعطش ولم تَرْوِهم كل دماء السوريين التي أريقت على «مذبح آستانة» بكل أرقام انعقادها؛ عن وهم في رؤوس البعض منهم، وعن مشاركة مدروسة ومخططة في رؤوس البعض الآخر بأوامر من المشغّلين لتكبير دورهم في ظل وجود مساحات فراغ يرغبون في تعبئتها كلاعبين إقليميين، وغياب تام لاستراتيجية غربية قادرة على إحداث تغيير حقيقي.
- رئيس المركز السوري
للدراسات والأبحاث القانونية
خاص بـ«الشرق الأوسط»
9:8 دقيقة
TT
هل تمسك روسيا فعلاً بمسار الحلول في سوريا؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة