«ما بعد الإنسانيّة»... من يوتوبيا غلغامش إلى رؤية كيرزويل

التوق لاكتساب قدرات غير مسبوقة قديم قِدَم النوع البشري

تعدُّ ملحمة غلغامش الرافدينية الوثيقة البشرية الأولى التي أكّدت سعي الكائن البشري للخلود
تعدُّ ملحمة غلغامش الرافدينية الوثيقة البشرية الأولى التي أكّدت سعي الكائن البشري للخلود
TT

«ما بعد الإنسانيّة»... من يوتوبيا غلغامش إلى رؤية كيرزويل

تعدُّ ملحمة غلغامش الرافدينية الوثيقة البشرية الأولى التي أكّدت سعي الكائن البشري للخلود
تعدُّ ملحمة غلغامش الرافدينية الوثيقة البشرية الأولى التي أكّدت سعي الكائن البشري للخلود

قد يحيلنا عنوان هذه المقالة إلى أطروحة فوكوياما ذائعة الصيت بشأن «نهاية التأريخ»، غير أن هذه الأطروحة هي أطروحة آيديولوجية بالكامل، وقد ثبتت هشاشتها، كما اعترف بذلك فوكوياما ذاته، عندما تأكّد لنا أنّ الليبرالية والأسواق الحرّة ليست الاكتشاف الأخير في حلبة المبتدعات الفكرية البشرية. أما فكرة «ما بعد الإنسانية»، فليست أطروحة آيديولوجية، رغم مفاعيلها المؤثرة على الصعيد الآيديولوجي، بقدر ما هي بعض النتائج المترتّبة على صعود تطبيقات الذكاء الاصطناعي وخوارزمياته العامّة التي باتت تشكّل المعلم المميز لحياتنا في عصر الثورة التقنية الرابعة التي أصبحنا نعيش اليوم على أعتابها.
يرتبط مصطلح «ما بعد الإنسانية» (Posthumanism) ارتباطاً وثيقاً بالإنسان المعزّز رقمياً بصورة مكثفة، ويشيرُ إلى حالة وصفها العالم البحّاثة ذائع الصيت راي كيرزويل في كتابه الأشهر «المرحلة التفرّدية قريبة»، ثمّ أكمل رؤيته في كتاب آخر بعنوان «عصر الآلات الروحية».
مفردة «التفرّدية» (Singularity) الواردة في عنوان كتاب كيرزويل مفردة لها أهميتها الكبيرة، وذات مدلول دقيق، وتعني بشكل عام حالة تختلف نوعياً - وعلى نحو جذري - عما هو سابق لها، وما هو لاحق عليها. وفي حالة العالم الرقمي والذكاء الاصطناعي، تعني تحديداً تلك الحالة التي لا يمكن فيها للإنسان متابعة استمرارية وجوده من غير دعمٍ (جزئي أو كلي) من الوسائط الرقمية التي ستتجاوز مرحلة الوسائط الخارجية (مثل الذاكرات الحافظة للبيانات، والهواتف النقالة، وقارئات الكتب والنصوص... إلخ)، لكي تصل مرحلة التداخل البيولوجي مع وظائف الكائن الحي (الرقاقات المزروعة في الدماغ البشري، وأجهزة تدعيم السمع أو الرؤية، والوسائط التي تسمح بخلق بيئات افتراضية ذات سمات محددة، ولأغراض محدّدة هي الأخرى... إلخ). وما يدعو للدهشة أن كيرزويل وضع تأريخاً هو 2029، رأى فيه أن الكائن البشري لا بد أن يستعين بعده بشكل من أشكال المؤازرة الرقمية الجزئية. أما لحظة التحوّل التفرّدي الثوري العميق والشامل، فستحصل مع عام 2045! فحينها، لن يعود بمستطاع الكائن البشري التعامل مع بيئته من غير قدرات احتسابية، ومُعالِجات للمعلومات والبيانات تفوق قدرته الذاتية، مهما توفّر على قدرات بيولوجية وعقلية متفوقة.
- تجاوز المحدوديات البشرية
إنّ التوق البشري لاكتساب قدرات جديدة غير مسبوقة توقٌ قديم قِدَم نوعنا البشري ذاته، إذ لطالما جاهدنا في توسيع حدود وجودنا البشري في المستويات الاجتماعية والجغرافية والعقلية كافة، وثمة ميلٌ طاغٍ ومستديم لدى بعض الأشخاص - في أقلّ تقدير - للبحث عن انعطافة يمكننا من خلالها تجاوز أي معضلة وجودية أو محدودية يمكن أن تطال الحياة البشرية أو السعادة البشرية أيضاً.
وتعدُّ ملحمة غلغامش الرافدينية ذائعة الصيت الوثيقة البشرية الأولى التي أكّدت سعي الكائن البشري للخلود من جهة، ويقينه آخر الأمر بأنّ هذا الخلود لن يتحقق عن طريق الاستمرارية الجسدية، بل باستمرارية الأثر الطيّب والفعل الصالح. وهنا، نلمح هذا الإسقاط الفلسفي الذي ينطوي على ثنائية متضادة، إذ لطالما تمّ تصوير المسعى البشري لتجاوز المحدوديات الطبيعية الحاكمة باعتباره مسعى ينطوي على ازدواجية يدفعها ما يمكن توصيفه بِـمفهوم «الغطرسة»، ثمّ يدافع هؤلاء الذين يرون في هذا السعي البشري غطرسة خالصة عن وجهة نظرهم بالقول إنّ بعض طموحات هذا المسعى ستندفع خارج سقف المحددات الطبيعية الضرورية لإدامة الحياة البشرية، وبالتالي ستكون مجلبة لبعض النتائج السلبية العكسية، إذا ما تحقّقت بالفعل على أرض الواقع. يمكننا أن نلحظ شيئاً من هذه الثنائية في الميثولوجيا الإغريقية: سرق «بروميثيوس» النار من زيوس (كبير الآلهة الإغريقية)، وأعطاها للبشر الفانين، الأمر الذي ترتّب عليه تحسين دائمي للوضع البشري بسبب مفاعيله وتأثيراته، لكن بروميثيوس تلقّى عقاباً صارماً من زيوس بسبب فعلته تلك.
تمثل «ما بعد الإنسانية» تتويجاً للحلم اليوتوبي البشري في الانعتاق من أسر المحدوديات البيولوجية الحاكمة للوجود البشري (المرض، والوهن، والشيخوخة، والخرف، والموت)، ويمثل السعي للخلود الوجه الآخر لما بعد الإنسانية. وهنا، يمكننا القول إنّ الوسائل التقنية وتداخلاتها العميقة صارت هي المرتكز الذي يُراد منه تحقيق ما عجزت عن تحقيقه الأحلام اليوتوبية.
ولا بد هنا من التأكيد على أنّ «ما بعد الإنسانية» هي أبعد من مجرد تطويرات تقنية تحصل للكائن البشري، وتجعله يغادر مرتبة الكينونة البشرية البيولوجية الكلاسيكية، بل إن المدلول الفلسفي (الأنتولوجي) (الوجودي) للكينونة البشرية ذاتها ستعادُ صياغة مفهومها بعد مغادرة مفهوم «مركزية الكائن البشري» في محيطه البيولوجي، كما هو حاصل اليوم، حيث سنشهد إعادة صياغة كلّ الأنساق البيولوجية والمعرفية التي تميّز الوجود البشري الحالي. ومن هنا، جاء مفهوم «نهاية الكائن البشري الكلاسيكي»، ليكون خصيصة مميزة لعالم ما بعد الإنسانية.
- الإنسانية العابرة للكائن البشري
هناك مصطلح آخر شائع أيضاً في هذا الميدان الفكري، وأعني به مفهوم «الإنسانية العابرة» (Transhumanism) الذي قد يستطيب البعض أن يسمّيه (الأنسنة الانتقالية).
تمثّل الإنسانية العابرة جسراً ما بين الكائن البشري الكلاسيكي الذي نعرف وبين عصر ما بعد الإنسانية، وتتحدّد بالتعزيز التقني للقدرات البشرية، من غير مجاوزة مركزية الوجود البشري. وعليه، فإنّ ما وصفه كيرزويل في الكائن البشري المعزز تقنياً إنما يمثّل ملمحاً في عالم «الإنسانية العابرة للكائن غير المعزّز تقنياً» فحسب، ولا تمتدّ برؤيتها نحو الكائن البشري في عالم ما بعد الإنسانية. ولعلّ بعض ملامح رؤية كيرزويل باتت قريبة من عتبة التطبيق واسع النطاق، وأظنّ أنّ معظم صغارنا الذين لم يتجاوزوا العقد الأول من أعمارهم سيكونون الكائنات البشرية الأولى التي ستشهد تطبيق التعزيز التقني عليها في العقدين المقبلين.
ويمكن تصوير الإنسانية العابرة للكائن البيولوجي الحالي غير المعزّز تقنياً بأنها توسِعة وامتداد لفكرة الإنسانية (humanism) ذاتها التي يبدو واضحاً أنّ الإنسانية العابرة مشتقّة جزئياً منها. ويعتقد الإنسانيون أنّ الكائنات البشرية كينونات مهمّة، وأنّ الماهية الفردية للأفراد البشريين موضوع جوهري عظيم الأهمية كذلك، ويتشارك المنافحون عن فكرة الإنسانية العابرة للكائن غير المعزّز تقنياً الإيمان مع الإنسانيين بالقيم الإنسانية المتفق عليها في عالم اليوم، لكنهم إلى جانب هذا لا ينفكّون يؤكّدون دوماً على القدرات الفائقة التي يمكن أن يحوزها الكائن البشري، وهي خليقة في الوقت ذاته بأن تجعله يتمايز جوهرياً عن الكيفية التي يبدو بها في وقتنا الحاضر. وبمثل ما يمكننا اللجوء إلى الوسائل العقلانية لتطوير الوضع البشري، والارتقاء به وبالعالم الخارجي معاً، يمكننا بالكيفية ذاتها اللجوء إلى الوسائل العقلانية نفسها لتطوير ذواتنا والارتقاء بها.
إنّ موضوعات مثل «ما بعد الإنسانية» و«الإنسانية العابرة للكائن البشري البيولوجي المعروف كلاسيكياً» لهي موضوعات استراتيجية باتت أبعد ما تكون عن التصوّرات اليوتوبية لبعض المفكّرين والفلاسفة الذين قرأنا عنهم في عصر التنوير الأوروبي أو عصر الثورات التقنية (بكلّ أطوارها)، وليس أمامنا سوى التفكّر الجاد والمعمّق بهذه الموضوعات، خصوصاً أننا صرنا نشهد بواكيرها، وستترتّب عليها استقطابات حادة (إلى جانب الاستقطابات العالمية الخطيرة السائدة في يومنا هذا)، تلك الاستقطابات التي ستعيد تشكيل المشهد العالمي بطريقة درامية لم نعهدها أبداً.
- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في الأردن


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.