ماذا يعني أن تكون مسلماً في القرن الحادي والعشرين؟

جون تولان يكتب عن تاريخ الإسلام منذ البداية وحتى اليوم

جون تولان
جون تولان
TT

ماذا يعني أن تكون مسلماً في القرن الحادي والعشرين؟

جون تولان
جون تولان

أحمد الله على أنني عندما غادرت فرنسا قبل سنوات عدة لم أذهب إلى بلد آخر غير المغرب. أولاً ليس لأنه أجمل بلد في العالم، وإنما لأنه يحتوي على كلتا الحضارتين الكبيرتين: الحضارة العربية الإسلامية من جهة، والحضارة الأوروبية الفرنسية من جهة أخرى. إنه ملتقى الحضارات. لقد كان فعلاً المكان الأنسب لمنفاي الجديد. ولكن هل أنا في منفى حقاً؟ لماذا أقول هذا الكلام؟ لماذا أمجد المغرب كل هذا التمجيد؟ لأنك تجد فيه الحرية الفكرية، ثم بالأخص لأنك تجد فيه كلتا المكتبتين: العربية والفرنسية. وهذا كل ما أريده في الواقع. أحيانًا عندما أتجول في رحاب مكتبة الألفية الثالثة (أي مكتبة القرن الحادي والعشرين) الواقعة في مركز العاصمة مقابل البرلمان والمحطة الكبرى أشعر كأنني أتجول في رحاب إحدى مكتبات الحي اللاتيني أو شارع السان ميشيل أو السان جيرمان في قلب العاصمة الفرنسية، بل يخيَّل لي أن مكتبة الألفية الثالثة أجمل وأرقى. وقل الأمر ذاته عن مكتبة «كليلة ودمنة»، هذا ناهيك عن مكتبات الدار البيضاء العملاقة... إلخ. عندما سألت بتلهف الأخ المشرف على بيع الكتب: هل عندكم كتاب «تاريخ جديد للإسلام» يا تُرى؟ أجابني على الفور: «انتظر لحظة حتى أرى». مجرد ثوانٍ وإذا بالكتاب بين يدي.

شعرت بسعادة حقيقية. هذه حداثة. هذه حضارة. أما الكتاب العربي فتجده في مكتبة «دار الأمان» الضخمة العملاقة الواقعة خلف وزارة العدل. كل شيء متوافر في هذا البلد الأمين: الكتاب العربي موجود، والكتاب الفرنسي موجود. ماذا تريد أكثر من ذلك أيها الإنسان؟ عم يتحدث كتاب «تاريخ جديد للإسلام» من القرن السابع إلى القرن الحادي والعشرين؟ عن تاريخ الإسلام كله من أوله إلى آخره. ولكن من الباحث الضليع القادر على تحقيق ذلك غير البروفيسور الأميركي - الفرنسي جون تولان المختص والمتبحر بالتراث الإسلامي؟ في أقل من 350 صفحة يستعرض هذا الباحث الكبير تاريخ الثقافة العربية الإسلامية منذ ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي وحتى يومنا هذا. الكتاب مؤلف من 3 أجزاء. الجزء الأول مخصص لدراسة مرحلة التأسيس. وهو ينقسم إلى 4 فصول. الفصل الأول يتحدث عن القرآن الكريم وولادة جماعة المؤمنين الأولى. والفصل الثاني يتحدث لنا عن مرحلة السلالة الأموية وولادة دين إمبراطوري كبير في دمشق على يدها. والفصل الثالث يتحدث عن بغداد العباسية حيث تَشَكَّلَ دينٌ إمبراطوري أكبر من السابق وأعظم حضارياً. إنها الإمبراطورية العربية الإسلامية الكبرى التي صهرت كل الأقوام والشعوب والحضارات في بوتقتها. والفصل الرابع يتحدث عن أنظمة الخلافة الثلاثة التي كانت مهيمنة على العالم الإسلامي نحو عام 1000 للميلاد: أي الخلافة الفاطمية في القاهرة، والخلافة الأموية في قرطبة، والخلافة العباسية في بغداد طبعاً.

وأما الجزء الثاني من الكتاب فيتحدث لنا عن مرحلة التوسع للحضارة العربية الإسلامية. وهنا نجد 3 فصول تتحدث عن الفتوحات والتوسعات والتشكلات الجديدة لعالم الإسلام بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر. ثم يجيء فصل كامل ممتع جداً بعنوان: عالم ابن بطوطة! ثم يختتم المؤلف هذا الجزء الثالث بفصل يحمل العنوان التالي: الإمبراطوريات الإسلامية للحداثة الأولى ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر.

وأما الجزء الثالث والأخير من هذا الكتاب الطموح جداً فمكرس لعصر الحداثة أو حتى الحداثات بصيغة الجمع. إنه يدرس حضارتنا العربية الإسلامية طيلة القرن التاسع عشر وحتى القرن الحادي والعشرين مروراً بالعشرين بطبيعة الحال. وهو مقسوم أيضاً إلى 3 فصول. الفصل الأول بعنوان: الاستعمار ومقاومته ما بين حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798 وحتى تاريخ سقوط الإمبراطورية العثمانية عام 1918. وأما الفصل الثاني فمكرس لدراسة مرحلة الاستقلال وظهور الإسلام السياسي في القرن العشرين. وأما الفصل الثالث والأخير من الكتاب فمكرس لدراسة الموضوع التالي: الإسلام ما بين الإصلاح والتطرف الراديكالي. ماذا يعني أن تكون مسلماً في القرن الحادي والعشرين؟ ثم ينهي المؤلف كتابه بخاتمة تحمل العنوان التالي: المسلمون والإسلام في الغرب.

هكذا تلاحظون أن الرجل يعرف عن أي شيء يتحدث بالضبط، بل أكاد أقول إنه يعرف أوضاعنا من الداخل والخارج أكثر من أي مثقف عربي. والسبب هو أنه باحث كبير كرَّس حياته كلها لدراسة تاريخ الإسلام. وهو بالمناسبة أستاذ في الجامعات الفرنسية والأميركية. إنه مختص بدراسة العلاقات الثقافية والدينية ما بين العالم العربي وأوروبا طيلة العصور الوسطى. وكان قد نشر سابقاً عدة كتب لفتت الأنظار. نذكر من بينها كتاباً بعنوان: «أوروبا والإسلام: قصة حياة خمسة عشر قرناً من الزمن». وذلك بالاشتراك مع باحثين آخرين. كما أنه نشر مؤخراً كتاباً هاماً وممتعاً جداً بعنوان: «محمد الأوروبي. سرد لتاريخ التصورات التي شكلت عن النبي الأعظم في الغرب». هذا بالإضافة إلى مراجع أخرى عديدة.

والآن دعونا ندخل في التفاصيل أكثر.

ماذا يريد المؤلف من تأليف هذا الكتاب؟ إنه يريد الإجابة عن التساؤل التالي: ماذا يعني أن تكون مسلماً في القرن الحادي والعشرين؟ وبالنسبة للبعض فإن جوهر الإسلام هو التزمت والتشدد وتكفير الآخرين، بل وحتى ذبحهم واستئصالهم على الطريقة الإخوانية الداعشية إذا أمكن. ولكن بالنسبة للمسلمين الآخرين (وهم الأغلبية لحسن الحظ) فإن الإسلام يعني ثقافة روحانية إيمانية منفتحة على العالم. إنها ثقافة روحانية أخلاقية تحتفل بالسلام والتسامح والمودة بين الشعوب والأقوام طبقاً للآية الكريمة: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم». هنا تكمن عظمة القرآن وحقيقة الإسلام. إنها ثقافة روحانية ربانية تعترف بتعددية الأديان في العالم ومشروعية هذه التعددية، بل ترحب أيضاً بها. ولكن هل يعترف الإخوان المسلمون وكل ما نتج عنهم من حركات تطرف وترويع بذلك؟ أبداً لا. وهنا تكمن مشكلة الإسلام مع العالم أو مشكلة العالم مع الإسلام حالياً. هنا يكمن الفرق الأساسي بين المسلم الحداثي التنويري والمسلم الإخواني المتزمت المكفهر. ولكن هذا الاختلاف ليس جديداً كما يقول المؤلف، وإنما هو يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الإسلامي. على مدار التاريخ كان هناك صراع بين التيار العقلاني والإنساني المنفتح للإسلام، والتيار المتشدد الانغلاقي الكاره للآخرين. تارة ينتصر هذا التيار وتارة ذاك. تارة ينتصر العصر الذهبي، وتارة ينتصر عصر الانحطاط، ولكن ما كنا نتوقع أن ينتصر عصر الانحطاط والظلمات في عز القرن الحادي والعشرين! هذا شيء ما كان يخطر لنا على بال. ما كنا نتوقع أن نصبح في مؤخرة الأمم والشعوب بعد أن كنا في مقدمتها. يقول المؤلف في أواخر الكتاب ما معناه: في 19 سبتمبر (أيلول) من عام 2014 وجه 126 عالماً مسلماً كبيراً من شتى الأقطار رسالة شديدة اللهجة إلى الخليفة الداعشي وكل المتعاطفين مع الدولة الإسلامية المزعومة، وقالوا لهم ما معناه: إن أفعالكم وفظائعكم مضادة لجوهر الإسلام والقرآن، لقد شوهتم صورتنا في شتى أنحاء العالم. إن ممارسة العنف الأعمى والتفجيرات العشوائية ضد المدنيين المسالمين (مسلمين كانوا أم غير مسلمين) أمور مضادة لأحكام الشرع والدين. وكذلك ممارسة التعذيب الوحشين واستباحة النساء واستعبادهن وحرمان المسيحيين والإيزيديين من حقوقهم. وطالب هؤلاء العلماء الخليفة الداعشي وجماعته بالتراجع عن هذه الأفعال والتوبة عنها.

على مدار التاريخ كان هناك صراع بين التيار العقلاني والإنساني المنفتح للإسلام، والتيار المتشدد الانغلاقي الكاره للآخرين

جون تولان

ولكن هنا يلاحظ المؤلف ما يلي:

وهو أن علماء الدين الأفاضل هؤلاء لا تذهب بهم الإدانة لـ«داعش» إلى حد تكفيرها، بل حتى سلطات الأزهر رفضت أن تكفر «داعش» على الرغم من كل فظاعات أفعالها وأعمالها. وبالمقابل سرعان ما تكفر السلطات الدينية المسلمين الحداثيين أو المثقفين العرب الليبراليين على حرية الكتابة والإبداع. وهذا شيء صادم جداً ومدهش. هذا شيء غير مفهوم على الإطلاق، بل هذا شيء مرعب؛ إذ كيف يمكن أن نكفر مثقفاً عربياً على رواية نشرها ولا نتجرأ على تكفير «داعش»؟ كيف يمكن تكفير نجيب محفوظ الذي هو مجد الآداب العربية على رواية عبقرية مثل «أولاد حارتنا»، ولا نستطيع تكفير أولئك الوحوش الهمج الذين استباحوا إخواننا الإيزيديين الشرفاء في جبل سنجار بكل نسائهم وأرزاقهم وأعراضهم؟ هنا تكمن معضلة الثقافة الدينية عندنا حالياً. وهذا أكبر دليل على أن إسلام الظلمات لا يزال متغلباً على إسلام الأنوار. هذا أكبر دليل على أن لاهوت العصور الوسطى لا يزال يتحكم في رقابنا وليس لاهوت العصور الحديثة. الكلمة العليا لا تزال للاهوت التكفير لا للاهوت التحرير والتنوير. ولكن وراء الأكمة ما وراءها. والتاريخ لم يقل كلمته الأخيرة بعد؛ فالعالم العربي مليء بالتيارات الفكرية الإبداعية التحديثية التي سوف تغير الخريطة، وتقلب الموازين لاحقاً.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».