ماذا يعني أن تكون مسلماً في القرن الحادي والعشرين؟

جون تولان يكتب عن تاريخ الإسلام منذ البداية وحتى اليوم

جون تولان
جون تولان
TT

ماذا يعني أن تكون مسلماً في القرن الحادي والعشرين؟

جون تولان
جون تولان

أحمد الله على أنني عندما غادرت فرنسا قبل سنوات عدة لم أذهب إلى بلد آخر غير المغرب. أولاً ليس لأنه أجمل بلد في العالم، وإنما لأنه يحتوي على كلتا الحضارتين الكبيرتين: الحضارة العربية الإسلامية من جهة، والحضارة الأوروبية الفرنسية من جهة أخرى. إنه ملتقى الحضارات. لقد كان فعلاً المكان الأنسب لمنفاي الجديد. ولكن هل أنا في منفى حقاً؟ لماذا أقول هذا الكلام؟ لماذا أمجد المغرب كل هذا التمجيد؟ لأنك تجد فيه الحرية الفكرية، ثم بالأخص لأنك تجد فيه كلتا المكتبتين: العربية والفرنسية. وهذا كل ما أريده في الواقع. أحيانًا عندما أتجول في رحاب مكتبة الألفية الثالثة (أي مكتبة القرن الحادي والعشرين) الواقعة في مركز العاصمة مقابل البرلمان والمحطة الكبرى أشعر كأنني أتجول في رحاب إحدى مكتبات الحي اللاتيني أو شارع السان ميشيل أو السان جيرمان في قلب العاصمة الفرنسية، بل يخيَّل لي أن مكتبة الألفية الثالثة أجمل وأرقى. وقل الأمر ذاته عن مكتبة «كليلة ودمنة»، هذا ناهيك عن مكتبات الدار البيضاء العملاقة... إلخ. عندما سألت بتلهف الأخ المشرف على بيع الكتب: هل عندكم كتاب «تاريخ جديد للإسلام» يا تُرى؟ أجابني على الفور: «انتظر لحظة حتى أرى». مجرد ثوانٍ وإذا بالكتاب بين يدي.

شعرت بسعادة حقيقية. هذه حداثة. هذه حضارة. أما الكتاب العربي فتجده في مكتبة «دار الأمان» الضخمة العملاقة الواقعة خلف وزارة العدل. كل شيء متوافر في هذا البلد الأمين: الكتاب العربي موجود، والكتاب الفرنسي موجود. ماذا تريد أكثر من ذلك أيها الإنسان؟ عم يتحدث كتاب «تاريخ جديد للإسلام» من القرن السابع إلى القرن الحادي والعشرين؟ عن تاريخ الإسلام كله من أوله إلى آخره. ولكن من الباحث الضليع القادر على تحقيق ذلك غير البروفيسور الأميركي - الفرنسي جون تولان المختص والمتبحر بالتراث الإسلامي؟ في أقل من 350 صفحة يستعرض هذا الباحث الكبير تاريخ الثقافة العربية الإسلامية منذ ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي وحتى يومنا هذا. الكتاب مؤلف من 3 أجزاء. الجزء الأول مخصص لدراسة مرحلة التأسيس. وهو ينقسم إلى 4 فصول. الفصل الأول يتحدث عن القرآن الكريم وولادة جماعة المؤمنين الأولى. والفصل الثاني يتحدث لنا عن مرحلة السلالة الأموية وولادة دين إمبراطوري كبير في دمشق على يدها. والفصل الثالث يتحدث عن بغداد العباسية حيث تَشَكَّلَ دينٌ إمبراطوري أكبر من السابق وأعظم حضارياً. إنها الإمبراطورية العربية الإسلامية الكبرى التي صهرت كل الأقوام والشعوب والحضارات في بوتقتها. والفصل الرابع يتحدث عن أنظمة الخلافة الثلاثة التي كانت مهيمنة على العالم الإسلامي نحو عام 1000 للميلاد: أي الخلافة الفاطمية في القاهرة، والخلافة الأموية في قرطبة، والخلافة العباسية في بغداد طبعاً.

وأما الجزء الثاني من الكتاب فيتحدث لنا عن مرحلة التوسع للحضارة العربية الإسلامية. وهنا نجد 3 فصول تتحدث عن الفتوحات والتوسعات والتشكلات الجديدة لعالم الإسلام بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر. ثم يجيء فصل كامل ممتع جداً بعنوان: عالم ابن بطوطة! ثم يختتم المؤلف هذا الجزء الثالث بفصل يحمل العنوان التالي: الإمبراطوريات الإسلامية للحداثة الأولى ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر.

وأما الجزء الثالث والأخير من هذا الكتاب الطموح جداً فمكرس لعصر الحداثة أو حتى الحداثات بصيغة الجمع. إنه يدرس حضارتنا العربية الإسلامية طيلة القرن التاسع عشر وحتى القرن الحادي والعشرين مروراً بالعشرين بطبيعة الحال. وهو مقسوم أيضاً إلى 3 فصول. الفصل الأول بعنوان: الاستعمار ومقاومته ما بين حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798 وحتى تاريخ سقوط الإمبراطورية العثمانية عام 1918. وأما الفصل الثاني فمكرس لدراسة مرحلة الاستقلال وظهور الإسلام السياسي في القرن العشرين. وأما الفصل الثالث والأخير من الكتاب فمكرس لدراسة الموضوع التالي: الإسلام ما بين الإصلاح والتطرف الراديكالي. ماذا يعني أن تكون مسلماً في القرن الحادي والعشرين؟ ثم ينهي المؤلف كتابه بخاتمة تحمل العنوان التالي: المسلمون والإسلام في الغرب.

هكذا تلاحظون أن الرجل يعرف عن أي شيء يتحدث بالضبط، بل أكاد أقول إنه يعرف أوضاعنا من الداخل والخارج أكثر من أي مثقف عربي. والسبب هو أنه باحث كبير كرَّس حياته كلها لدراسة تاريخ الإسلام. وهو بالمناسبة أستاذ في الجامعات الفرنسية والأميركية. إنه مختص بدراسة العلاقات الثقافية والدينية ما بين العالم العربي وأوروبا طيلة العصور الوسطى. وكان قد نشر سابقاً عدة كتب لفتت الأنظار. نذكر من بينها كتاباً بعنوان: «أوروبا والإسلام: قصة حياة خمسة عشر قرناً من الزمن». وذلك بالاشتراك مع باحثين آخرين. كما أنه نشر مؤخراً كتاباً هاماً وممتعاً جداً بعنوان: «محمد الأوروبي. سرد لتاريخ التصورات التي شكلت عن النبي الأعظم في الغرب». هذا بالإضافة إلى مراجع أخرى عديدة.

والآن دعونا ندخل في التفاصيل أكثر.

ماذا يريد المؤلف من تأليف هذا الكتاب؟ إنه يريد الإجابة عن التساؤل التالي: ماذا يعني أن تكون مسلماً في القرن الحادي والعشرين؟ وبالنسبة للبعض فإن جوهر الإسلام هو التزمت والتشدد وتكفير الآخرين، بل وحتى ذبحهم واستئصالهم على الطريقة الإخوانية الداعشية إذا أمكن. ولكن بالنسبة للمسلمين الآخرين (وهم الأغلبية لحسن الحظ) فإن الإسلام يعني ثقافة روحانية إيمانية منفتحة على العالم. إنها ثقافة روحانية أخلاقية تحتفل بالسلام والتسامح والمودة بين الشعوب والأقوام طبقاً للآية الكريمة: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم». هنا تكمن عظمة القرآن وحقيقة الإسلام. إنها ثقافة روحانية ربانية تعترف بتعددية الأديان في العالم ومشروعية هذه التعددية، بل ترحب أيضاً بها. ولكن هل يعترف الإخوان المسلمون وكل ما نتج عنهم من حركات تطرف وترويع بذلك؟ أبداً لا. وهنا تكمن مشكلة الإسلام مع العالم أو مشكلة العالم مع الإسلام حالياً. هنا يكمن الفرق الأساسي بين المسلم الحداثي التنويري والمسلم الإخواني المتزمت المكفهر. ولكن هذا الاختلاف ليس جديداً كما يقول المؤلف، وإنما هو يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الإسلامي. على مدار التاريخ كان هناك صراع بين التيار العقلاني والإنساني المنفتح للإسلام، والتيار المتشدد الانغلاقي الكاره للآخرين. تارة ينتصر هذا التيار وتارة ذاك. تارة ينتصر العصر الذهبي، وتارة ينتصر عصر الانحطاط، ولكن ما كنا نتوقع أن ينتصر عصر الانحطاط والظلمات في عز القرن الحادي والعشرين! هذا شيء ما كان يخطر لنا على بال. ما كنا نتوقع أن نصبح في مؤخرة الأمم والشعوب بعد أن كنا في مقدمتها. يقول المؤلف في أواخر الكتاب ما معناه: في 19 سبتمبر (أيلول) من عام 2014 وجه 126 عالماً مسلماً كبيراً من شتى الأقطار رسالة شديدة اللهجة إلى الخليفة الداعشي وكل المتعاطفين مع الدولة الإسلامية المزعومة، وقالوا لهم ما معناه: إن أفعالكم وفظائعكم مضادة لجوهر الإسلام والقرآن، لقد شوهتم صورتنا في شتى أنحاء العالم. إن ممارسة العنف الأعمى والتفجيرات العشوائية ضد المدنيين المسالمين (مسلمين كانوا أم غير مسلمين) أمور مضادة لأحكام الشرع والدين. وكذلك ممارسة التعذيب الوحشين واستباحة النساء واستعبادهن وحرمان المسيحيين والإيزيديين من حقوقهم. وطالب هؤلاء العلماء الخليفة الداعشي وجماعته بالتراجع عن هذه الأفعال والتوبة عنها.

على مدار التاريخ كان هناك صراع بين التيار العقلاني والإنساني المنفتح للإسلام، والتيار المتشدد الانغلاقي الكاره للآخرين

جون تولان

ولكن هنا يلاحظ المؤلف ما يلي:

وهو أن علماء الدين الأفاضل هؤلاء لا تذهب بهم الإدانة لـ«داعش» إلى حد تكفيرها، بل حتى سلطات الأزهر رفضت أن تكفر «داعش» على الرغم من كل فظاعات أفعالها وأعمالها. وبالمقابل سرعان ما تكفر السلطات الدينية المسلمين الحداثيين أو المثقفين العرب الليبراليين على حرية الكتابة والإبداع. وهذا شيء صادم جداً ومدهش. هذا شيء غير مفهوم على الإطلاق، بل هذا شيء مرعب؛ إذ كيف يمكن أن نكفر مثقفاً عربياً على رواية نشرها ولا نتجرأ على تكفير «داعش»؟ كيف يمكن تكفير نجيب محفوظ الذي هو مجد الآداب العربية على رواية عبقرية مثل «أولاد حارتنا»، ولا نستطيع تكفير أولئك الوحوش الهمج الذين استباحوا إخواننا الإيزيديين الشرفاء في جبل سنجار بكل نسائهم وأرزاقهم وأعراضهم؟ هنا تكمن معضلة الثقافة الدينية عندنا حالياً. وهذا أكبر دليل على أن إسلام الظلمات لا يزال متغلباً على إسلام الأنوار. هذا أكبر دليل على أن لاهوت العصور الوسطى لا يزال يتحكم في رقابنا وليس لاهوت العصور الحديثة. الكلمة العليا لا تزال للاهوت التكفير لا للاهوت التحرير والتنوير. ولكن وراء الأكمة ما وراءها. والتاريخ لم يقل كلمته الأخيرة بعد؛ فالعالم العربي مليء بالتيارات الفكرية الإبداعية التحديثية التي سوف تغير الخريطة، وتقلب الموازين لاحقاً.


مقالات ذات صلة

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

كتب كارل يونغ

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

ربما يكون كارل غوستاف يونغ (1875 - 1961)، عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي، أحد أهم مفكري القرن العشرين الذين لا يزال تأثيرهم طاغياً على فهم الإنسان

ندى حطيط
ثقافة وفنون وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني

صيد الأسود على وعاء معدني من سلطنة عُمان

كشفت أعمال التنقيب الأثرية في سلطنة عُمان عن مجموعة من الأوعية المعدنية تعود إلى المرحلة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون رواية أردنية عن صراع الإنسان مع الزمن

رواية أردنية عن صراع الإنسان مع الزمن

تقوم الفكرة الأساسية في رواية «لون آخر للغروب» للكاتبة الأردنية هيا صالح، حول صراع الإنسان مع الزمن، وهو الصراع الذي من أسبابه الأساسية مفهوم السّلطة

«الشرق الأوسط» (عمان)
ثقافة وفنون بيرسيفال إيفيريت

بيرسيفال إيفيريت يقلب رواية مارك توين

بيرسيفال إيفيريت لم يقلبْ مارك توين رأساً على عقب، كما يدَّعِي العنوان، الذي لعبت دوراً في صياغته الرغبة في أن يكون لافتاً وجاذباً،

د. مبارك الخالدي
ثقافة وفنون صافي ناز كاظم تمزج السيرة الذاتية بالنقد

صافي ناز كاظم تمزج السيرة الذاتية بالنقد

تتميز نصوص الكاتبة المصرية صافي ناز كاظم بمذاق خاص من الحيوية والصدق والحرارة ينبع من مزجها الدائم بين السيرة الذاتية والرؤى النقدية

رشا أحمد (القاهرة)

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

كارل يونغ
كارل يونغ
TT

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

كارل يونغ
كارل يونغ

ربما يكون كارل غوستاف يونغ (1875 - 1961)، عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي، أحد أهم مفكري القرن العشرين الذين لا يزال تأثيرهم طاغياً على فهم الإنسان المعاصر لذاته إلى جانب الأسماء التقليديّة الأخرى أمثال فرويد وماركس وهايدغر ولي كوربوزييه، وفوكو. إذ برغم التقدم الهائل للعلوم النظريّة والاجتماعيّة منذ غيابه قبل خمسة وستين عاماً تقريباً، فإن بعض تطبيقات أفكاره في مجالات تصنيف شخصيّات البشر وأنماط تصرفهم اللاواعيّة وطرق تعاطيهم مع الآخرين ممن يختلفون عنهم تعدُّ الأساس النظري الذي تقوم عليه نماذج تحليلية متقدمة لا غنى عنها في عالم الأعمال وإدارة الموارد البشريّة والتحليل النفسي الأساسي في نطاق العمل، مثل أنظمة «ديسك» (DiSC)، و«إنسايت» (Insight)، و«مايرز - بريغز» (Myers-Briggs) وغيرها، وأصبحت بعض مصطلحاته في وصف الشخصيّة (مثل الانطوائي أو الانبساطي) وافرة الاستخدام حتى في الأحاديث العادية.

سيغموند فرويد

تعرّض يونغ مع ذلك إلى انتقادات عديدة في حياته، فكان خلافه النظريّ مع صديقه اللّدود سيغموند فرويد مبكراً بعدما اختار أن يتجاوز بداية من عام 1912 موضوعة الطاقة الجنسيّة (الليبيدو) في تفسير الاضطرابات الذهانيّة مثل الفصام والشيزوفرانيا، ثم وجهت له اتهامات متناقضة تارة بمعاداة الساميّة وتبني الأفكار النازيّة، وتارة باستخدام دوره رئيساً للجمعيّة الطبية العامة للعلاج النفسي في ألمانيا لتسهيل عمل المحللين النفسيين اليهود ما تسبب لاحقاً في مصادرة كتبه في ألمانيا وأُدرج اسمه على القائمة السوداء. كما عدَّ البعض سلوكه متناقضاً، إذ فرض أثناء رئاسته لتلك الجمعية ميثاقاً يفرض على أعضائها اتخاذ موقفٍ حياديٍ فيما يتعلق بالسياسة والعقائد لدى ممارسة عملهم، لكنه تعاون في عام 1943م مع مكتب الخدمات الاستراتيجية (الذي تحول لاحقاً إلى ما يعرف الآن بجهاز الاستخبارات المركزية الأميركيّة) وساعد على تقديم تحليل لشخصيات الزعماء النازيين لصالح المجهود الحربي الأميركي.

انحيازات يونغ السياسيّة سهلت تبني أعماله ونظرياته لاحقاً عبر العالم الأنجلوسكسوني، ما سمح بتجاهل جانب آخر من أفكاره يتعلّق بالملمح العنصريّ الذي حكم تقييماته للشعوب غير البيضاء، وهو أمر لا يمكن تفسيره في إطار انتماء الرجل لعصر انتشرت فيه العنصريات والفاشيات، وسيطرت على نخب ودول عديدة في الغرب، كما أنّه لا يتعلق بنص عابر هنا أو فلتة لسان هناك، أو حتى مرحلة فكريّة مرّ بها، إذ تعددت الشواهد من أعماله ومحاضراته وحتى كتاباته الشخصيّة، وفي مختلف مراحل حياته المهنيّة على نفس يبدو مستلاً بكليته من منطق العنصرية الفيكتوري، ويمتد ليكون منطلقاً ومكوناً لنظرياته في التحليل النفسي، على نحو قد يدفع المرء في القرن الحادي والعشرين ليس بالضرورة لإلغاء الرجل وفكره بالكامل، ولكن على الأقل لإعادة تقييم مجمل تراثه كأداة للتفكير، وهو تراث طالما زعم صاحبه بأنه يأتي ضمن سياق البحث في معرفة الإنسان، الممر اللازم لكل تقدّم للنوع البشري على هذه المعمورة، على حد تعبيره.

يعترف يونغ مثلاً بأننا «اللاوعي الجمعي» نشترك جميعنا كنوع بشري في ذات النموذج الأصلي: حيث لدى كل منا بغض النظر عن لون بشرته عيون وقلب وكبد وما إلى ذلك، لكنّه يستطرد ليقول بأن ذلك لا يلغي أن بعض الأجناس تمتلك طبقة تاريخيّة كاملة في لا وعيها قد لا تمتلكها أجناس أخرى، إذ «تتوافق الطبقات المختلفة من العقل مع تاريخ الأجناس». (النص من محاضراته في معهد تافيستوك، 1935).

ما عناه يونغ هنا، كان فسره في مواضع أخرى، إذ رأى أن طبيعة وعي الغربيين المعاصر «مختلفة تماماً عن وعي البدائيين، ولكن في أعماق نفسياتنا فإن ثمة طبقة سميكة من العمليات البدائية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمليات التي لا يزال من الممكن العثور عليها في إطار الحياة اليومية للبدائيين».

الشعوب التي يعدّها يونغ عالقة في مرحلة تطوريّة سابقة تجاوزها العرق الأبيض كانت جزءاً من حضارة عظيمة في وقت كان الأوروبيّون غارقين في الصراعات القبليّة

إشارة يونغ للبدائيين هنا كانت ربما لقبائل «إلغوني» من الصيادين وجامعي الثمار، وكان قد اطلع على بعض نظام حياتهم إبّان زيارته في 1926 لمناطق على الحدود بين أوغندا وكينيا، على أنه سحب هذا التوصيف ذاته على عرب شمال أفريقيا أيضاً بعدما كتب انطباعاته من زيارة قام بها في 1920 لتونس والجزائر، معتبراً أنهم عاطفيّون وطفوليّون غير قادرين على التفكّر و«أقرب إلى تلك الطبقات التاريخية في أنفسنا - كغربيين - والتي تغلبنا عليها، وتركناها وراءنا»، وأن هذه «المحيطات العربيّة التي تبدو غريبة ومختلفة تماماً عنّا توقظ ذكرى ماضي ما قبل التاريخ المعروف والذي يبدو أننا نسيناه تماماً». ولعله من نافل القول إن هذه الشعوب التي يعدّها يونغ عالقة في مرحلة تطوريّة سابقة تجاوزها العرق الأبيض كانت جزءاً من حضارة عظيمة امتدت من إندونيسيا إلى إسبانيا وما بينهما، في وقت كان الأوروبيّون غارقين في الصراعات القبليّة.

هذي النظرة العنصريّة عن العالم ليس مرتبطة بالجغرافيات (خارج الغرب) بقدر ما هي أشبه بتسلسل هرمي ثقافي يضع كل ذي بشرة ملونة في أدنى مراحل التطور الإنساني حتى لمن ولدوا وعاشوا في دول الغرب ولم يعرفوا بلاداً غيرها. إذ يعدُّ يونغ أن «الطفل يولد بدماغ محدد، ولذلك لن يعمل دماغ الطفل الإنجليزي مثل دماغ زميله الأسترالي الأسود» (محاضرات تافيستوك 1935). وهذا يعني ببساطة أنه إذا ولد طفل ينحدر من سكان أستراليا الأصليين في أوروبا، فلا فرصة له لأن يغدو متحضراً - وفق المقياس الأوروبي - بسبب محدودية دماغه! وهو كتب لاحقاً: «لا يسعني إلا أن أشعر بالتّفوق، كما يتم تذكيري في كل خطوة بطبيعتي الأوروبية»، وقبلها: «إنها ليست مجرد غطرسة أن يعتبر الإنجليز أي شخص منهم ولد في المستعمرات أقل شأناً ولو على نحو قليل رغم أن أفضل دم يسري في عروقه، إذ إن هنالك حقائق تدعم هذا الرأي».

لا يمكن الدّفاع عن أوهام يونغ هذه بأي صيغة، لا سيّما وأن معاصرين وزملاء له أدانوا علناً «مبدأ وجود تسلسلات هرميّة عرقيّة»، مثل فرانز بواس، رائد علم الأنثروبولوجيا في الولايات المتحدة، وهاجموا مزاعمه حول السود بوصفها «تشويهاً تاماً للحقائق»، حسب قول بول رادين، مؤلف كتاب «الإنسان البدائي كفيلسوف»، كما أن نهاية الحرب العالمية الثانية وضعت حداً لكل النظريات العرقية التي كانت تُعامل كعلوم، وتجاوز كثيرون ذلك المربع المقيت، لكن يونغ لم يغيّر أفكاره، وبقي عليها - كما يُقرأ في سيرته الذاتية - إلى آخر يوم في حياته.