«القناع والشعر»... دراسات في المشهد الشعري الراهن

«القناع والشعر»... دراسات في المشهد الشعري الراهن
TT

«القناع والشعر»... دراسات في المشهد الشعري الراهن

«القناع والشعر»... دراسات في المشهد الشعري الراهن

مجموعة من الدراسات والأفكار اللافتة يضمها كتاب «القناع والشعر» للناقد الأكاديمي دكتور عبد الحكيم العلَّامي، تعتمد بشكل أساسي على النظرية البنيوية، التي يرى أنها المدار الأقرب لتحليل النص في المشهد الشعري العربي الراهن، بخاصة في كينونته اللغوية المتعددة التراكيب والرؤى والأنساق، مبرراً ذلك بأن البنيوية تعد نموذجاً فكرياً شاملاً لتفسير الظواهر والأفكار في مجال العلوم الإنسانية، فهي تجمع ما بين «الرومانسية» كإطار فكري يعني بشطحات الخيال والإعلاء من شأن المشاعر والذات الإنسانية وبين «المنطقية الوضعية» كإطار فلسفي يعتمد على الحقائق العلمية المستقاة من الحواس والتجربة الحية الملموسة.

من هذا المنحى البنيوي، وبالتطبيق على عدد من أعمال مجموعة من الشعراء، معظمهم ينتمون للتيارات الشعرية الجديدة، بخاصة قصيدة النثر، يحلل المؤلف فكرة القناع، عبر مبحثين يضمهما الكتاب الواقع في 145 صفحة، فيرصد في المبحث الأول «محايثات القناع في الشعر» طرق تأويل القناع في النص، كموضوع، وإطار واسم ورمز، ثم يتناول علاقة القناع بفاعلية الأثر والوجه، كما يتوقف عند القناع كمسمّى وشاهد... وغيرها من الأفكار التي تجعل القناع أشبه بمنصة مسرح عليها تتنوع الأدوار والرؤى والتفاصيل، ودالاً مركزياً يتمتع بحيوية فنية ودرامية خاصة، تحفظ للذات الشاعرة إمكانية الدخول في القناع والخروج منه، بل كسره أحياناً، في لعبة أشبه بجدلية الخفاء والتجلي، يتم من خلالها تقمص أدوار لشخوص ورموز تراوح ما بين الغياب والحضور، يحفظ لها النص الشعري امتداداً حياً في جسد الزمان والمكان، ويرى المؤلف أن فاعلية القناع تكمن في أن الشاعر يريد من خلاله إيهام الآخرين بأن الذي يتحدث ليس هو الشاعر نفسه، إنما شخص آخر متخفٍّ تحت القناع، مؤكداً بذلك أن «الشخصية القناع إذن رمز يتخذه الشاعر العربي المعاصر ليضفي على صوته نبرة موضوعية شبه محايدة، تنأى به عن التدفق المباشر للذات، دون أن يخفي الرمز المنظور الذي يحدد موقف الشاعر من عصره، وغالباً ما يتمثل رمز القناع في شخصية من الشخصيات تنطق القصيدة صوتها، وتقدمها تقديماً متميزاً، يكشف عالم هذه الشخصية في مواقفها، أو هواجسها، أو تأملاتها، أو علاقاتها بغيرها، فتسيطر هذه الشخصية على قصيدة القناع، وتتحدث بضمير المتكلم، إلى درجة يخيل إلينا معها أننا نستمع إلى صوت الشخصية، لكننا ندرك - شيئاً فشيئاً - أن الشخصية في القصيدة ليست سوى قناع ينطق الشاعر من خلاله، فيتجاوب صوت الشخصية مع صوت الشاعر الضمني تجاوباً يصل بنا إلى معنى القناع في القصيدة».

ويوضح المؤلف أنه بهذا المعنى استلهم الشاعر المعاصر الشخصية التاريخية ذات الأثر مترسماً خطاها ومتحدثاً من خلال صوتها، لافتاً إلى أن لجوء الشاعر المعاصر إلى التعبير من خلال القناع يعد محاولة منه لاستقصاء آلامه وعذاباته على هذه الأرض، ومحاولة تجاوزها بعيداً عن أي مؤثر خارجي قد يعوق وجوده كإنسان.

وفي المبحث الثاني وهو بعنوان «الشعر احتياج»، يتوقف المؤلف عند عدد من التجارب الشعرية التي يرى أنها تحمل بذوراً قويةً لتأسيس شعرية الاحتياج، وتتعامل مع الشعر كضرورة وجود وحياة. ومن ثم فإذا كانت شعرية القناع تزاوج ما بين صوت الشاعر وصوت الشخصية المستدعاة ليكون الناتج صوتاً جديداً ومتميزاً يحمل شرعية نسبه إلى كلا الصوتين في آن؛ فإن شعرية الاحتياج هي التي تؤسس لكل هذا، وتضعه في سياق رؤية تنهض على التفاعل الحي بين النص والوجود؛ فأن يخلق الشاعر قناعاً ما، معنى ذلك أنه يخلق وجوداً خاصاً به، وفي سياق حر، ما يعكس محاولة للفرار من أثر وجوده الزائف مع الغير.

ويخلص دكتور العلَّامي في ختام دراسته الثرية إلى أنه أثناء تأمله للشخصيات المستدعاة من قبل الشاعر بحسبانها أقنعة، ومن أشهرها، الحلاج، بشر الحافي، النفري، وجد أنه من خلال هذه الاستدعاء يتوخى أموراً ثلاثة: أنه يستدعي ذات الشخصيات بحسبانها متكأ يستجير به أثناء عملية بثه لرسائله ذات الشفرات الشعرية. كما أنه يستلهمها بغية التأمين على مواقفها سعياً منه إلى مناصرتها منافحاً عنها ومقراً بمصداقية توجهها. وأخيراً أنه يستثمرها وصولاً إلى التأمين على مواقفه هو متخف وراءها فيما يشبه الإيهام بأن المتحدث ليس هو، مؤثراً بذلك السلامة، ومتجنباً مغبة المساءلة.


مقالات ذات صلة

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

كتب دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

يضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
كتب بعض واجهات المكتبات

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا

ألكسندرا ألتر
كتب الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

يتناول الناقد والباحث اليمني د. فارس البيل نشأة وجذور السرد الإبداعي في منطقة الخليج وعلاقة النص بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة

رشا أحمد (القاهرة)

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق
TT

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

صدر حديثاَ للباحث د. هاشم نعمة فياض، كتاب بعنوان «موضوعات اجتماعية - اقتصادية معاصرة مع التركيز على حالة العراق»، عن دار أهوار للنشر والتوزيع في بغداد، وهو يقع في 224 صفحة.

ويضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي مع التركيز على حالة العراق. ويعالج الكتاب قضايا مثل نمو سكان المناطق الحضرية في العراق وآثاره الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك يتناول الكتابات الماركسية الجديدة والنمو الحضري في البلدان النامية، اللاجئون العراقيون في أوروبا: تحليل مقارن، اتجاهات الهجرة الطلابية من البلدان العربية وتحولاتها، تزايد حاجة أوروبا للعمالة المهاجرة، العلاقة بين الخصوبة السكانية ومكانة المرأة في المجتمع، العراق مثالاً، وجفاف الدلتا في العراق وآثاره.

ومن المواضيع الأخرى صعود الليبرالية الجديدة وسقوطها، والعلاقة بين الديمقراطية والتنمية، والتعافي الاقتصادي بعد الجائحة، وعصر التنوير والجغرافيا، والجغرافيا والثقافة، وغيرها.

ويقول المؤلف إن هذه الموضوعات كُتبت أو تُرجمت في أوقات مختلفة، وارتأى جمعها في كتاب واحد لتكون في متناول الباحثين والقراء عموماً.

يركز الباحث على تحليل تطور نمو سكان الحضر في العراق زمانياً ومكانياً، ويمهد لذلك بخلفية نظرية تخص التحضر الهامشي وعلاقته بتوسع النظام الرأسمالي، ويتناول توزيع سكان الحضر على مستوى المحافظات، ويحلل مكونات النمو الحضري خصوصاً الهجرة الريفية - الحضرية إلى المدن الكبيرة مثل بغداد، ومدى مساهمتها في تضخم عدد سكانها، ويدرس الهجرة القسرية، ويتوقف عند التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عن نمو سكان الحضر وما أفرزته من مشكلات كبيرة على مستوى أزمة السكن، خصوصاً السكن العشوائي والفقر والبطالة، ومساهمة ذلك بعد عام 2003 في تغذية الموقف السلبي من قبل الشباب تجاه الأحزاب الدينية والسياسية الحاكمة، وعلاقة ذلك باندلاع «انتفاضة تشرين 2019»، كما يعالج إشكالية هيمنة المدن الكبيرة على الشبكة الحضرية ونتائجها.

وبالنسبة إلى هجرة العراقيين يذكر الباحث أن هناك كثيراً من الأسباب المتشابكة التي تقف وراء موجات هجرة العراقيين القسرية في مراحل مختلفة من تاريخ العراق. ولعل أبرز الأسباب يكمن في فشل الدولة العراقية الحديثة والخلل في بناء الدولة - الأمة، وعدم الاستقرار السياسي نتيجة تعاقب الأنظمة المستبدة الفاقدة للشرعية التي وصلت إلى السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية، وإقامة نظام الحزب الواحد المتمثل في حزب البعث وانتهاجه سياسات القمع السياسي والفكري والتبعيث القسري والتمييز القومي والديني والمذهبي والمناطقي، والحروب الداخلية والخارجية التي ساهم هذا النظام في اندلاعها، وكذلك احتلال العراق في عام 2003 وما تبعه من تفكك مؤسسات الدولة وإقامة نظام يتبنى المحاصصة الطائفية والإثنية، وشيوع ظاهرة الإرهاب والفساد وارتفاع معدلات البطالة وتدني الخدمات الأساسية، مما دفع آلاف العراقيين وخصوصاً الشباب، إلى طلب اللجوء لأوروبا خاصة.