د. كريم عبديان بني سعيد
ناشط حقوقي ومهتم بقضايا إيران
TT

ترمب أرغم إيران على المفاوضات... لكن كيف؟

منذ رحلته الأخيرة إلى اليابان، كرر الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنه يريد التفاوض، ولا يسعى لتغيير النظام في إيران، لكنه يريد إبرام صفقة شاملة مع طهران تُنهي سلوكها العدواني وتحوّل إيران إلى دولة عادية.
كان ترمب معارضاً منذ البداية للاتفاق النووي مع إيران، وجادل بأن الرئيس السابق باراك أوباما قد مكّن إيران من توسيع نفوذها على حساب حلفاء أميركا في المنطقة. ثم طوال حملته الانتخابية التي استمرت عامين ومنذ أن أصبح رئيساً، طرح مطلب تغيير النظام الإيراني ووضعه في أولويات سياساته تجاه طهران، لكنه أخيراً وبشكل فجائي أعلن أنه لا يريد تغيير النظام بل تغيير سلوكه.
ولغاية الآن على الأقل لم يحدد ترمب لعبة نهائية واضحة مع إيران، رغم تأكيده المستمر على إنه لا يسعى إلى الحرب، لكنه لن يتراجع عن هذا الخيار إذا هاجمت طهران القوات الأميركية.
فحوى هذه التصريحات والمواقف تدل على أن تحول السياسة الإيرانية جذرياً هو شرط أساسي مسبق للتوصل إلى أي تسوية استراتيجية بين واشنطن وطهران، والتي يمكن اعتبارها وفقاً لحديث ترمب، بديلاً عن هدف إسقاط النظام.
لكن كل ما حدث مؤخراً، لا يعني برأيي تبدلاً في الموقف الأميركي حول خيار تغيير النظام، وأرى أنه لا يزال مطروحاً، ويفضل ترمب تغيير النظام من الداخل من قبل الإيرانيين أنفسهم. لكن نظراً لأن المعارضة الإيرانية لم تستطع بعد توحيد صفوفها لكي تطرح نفسها بديلاً مقبولاً، يُنظر إلى خيار إسقاط النظام في الوقت الحاضر بصفته مشروعاً محفوفاً بالمخاطر. لا يزال الأميركيون يتخوفون مما حدث في العراق نتيجة قرارهم الخاطئ والانخداع بمجموعات المعارضة العراقية آنذاك التي سلمت العراق إلى نظام الملالي على طبق من ذهب. هذا بينما هناك الكثير من الجهود تبذل من قبل مجموعات المعارضة الإيرانية التي تحاول تشكيل ائتلافات ذات مصداقية داخل وخارج إيران، لكن قوى المعارضة الرئيسية لم تقنع ترمب ومستشاريه بعد بمشروعيتها بديلاً عن النظام، وبأنها قادرة على منع الفوضى عقب سقوط الملالي.
خلال اتصالاتي مع مؤسسات وشخصيات مختلفة في واشنطن، أسمع كثيراً في الأوساط المتواصلة مع البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية تكرار عبارة «لا نعرف ماذا نفعل مع إيران» ما ينم عن عدم بلورة استراتيجية متكاملة حيال نظام ولاية الفقيه.
كان أوباما يبشر العالم أن إيران بعد الاتفاق النووي عام 2015 ستكون دولة معتدلة ومستعدة للاستغناء عن طموحاتها التوسعية والعدوانية، وهدفها الخطير في أن تصبح دولة تمتلك أسلحة نووية. لكن بعد 4 أعوام ما حدث هو العكس، فها هي تستمر بسلوك عدائي أكبر، وتهدد بالعودة لتخصيب اليورانيوم وتقوم بتطوير الصواريخ الباليستية. لذا؛ تجاهل ترمب شعارات إدارة أوباما، وكان ناجحاً جداً في الانسحاب من الاتفاق النووي. لقد رأى ترمب أن أوباما وافق على عجل على الصفقة النووية، وقد تخلى عن عنصرين مهمين جداً، أولهما، الصواريخ الباليستية وانتشارها عن طريق تزويد الحوثيين و«حزب الله» والوكلاء الآخرين لطهران، وثانياً، منح الملالي الحرية في توسيع نفوذها واستمرار تدخلاتها العسكرية وزعزعة الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وبخاصة في العراق وسوريا ولبنان واليمن. لذا؛ تخلى ترمب عن الاتفاق الذي وصفه بأنه «الأسوأ في تاريخ أميركا»، ثم اعتمد سياسة «الضغط الأقصى Maximum Pressure» ، التي بموجبها فرض عقوبات شاملة ونوعية وتاريخية على طهران، وأهمها العقوبات النفطية وسياسة تصفير صادرات نفط إيران.
هذه السياسة حققت نجاحات كبيرة لحد الآن رغم أن النظام ما زال يصدر نحو 400 ألف برميل يومياً، حيث تمكنت إيران من تخزين نحو 70 مليون برميل في مرافق التخزين خارج إيران وعلى الناقلات في البحار. ثم قام ترمب بوضع الحرس الثوري في قائمة المنظمات الإرهابية الدولية، كما مدد العقوبات مؤخراً حول تصدير الصلب والألمنيوم.
كانت هذه العقوبات مؤثرة للغاية ودمرت الاقتصاد الإيراني. وعلى الرغم من أن نظام الملالي يسير نحو الهاوية امتنع ترمب لبعض الأسباب عن فرض عقوبات على المنتجات البتروكيماوية، وهو أهم صادرات إيران غير النفطية. أعتقد أن هذه التراجع الاستراتيجي هو منح فرصة للنظام مع طهران حتى لا ينهار بسرعة وتحدث الفوضى!
رغم تعاظم تأثير العقوبات وإنهاك الاقتصاد الإيراني، أعطت طهران مهلة مدتها 60 يوماً للأوروبيين لتفعيل آلية التبادل التجاري «اينستكس» ومساعدة الاقتصاد الإيراني بالالتفاف على العقوبات الأميركية من خلال هذه القناة، وإلا فإنها ستستأنف تخصيب اليورانيوم بدرجة أكبر. وكانت ردة فعل الأوروبيين غير مكترثة حيال ذلك، بل حذرت طهران من مغبة انتهاك بنود الاتفاق؛ ولذا قامت إيران بذكاء وبمساعدة لوبياتها وحلفائها بالغرب بشن هجمة إعلامية تُظهرها «ضحية حرب وشيكة» رغم أن الولايات المتحدة أعلنت مراراً أنها لا تنوي الدخول في الحرب.
لكن، بالعودة إلى القرار الأميركي حول تغيير النظام، فأرى أن ترمب لا يزال لا يعرف مدى تأثير الضغوط الاقتصادية على سلوك النظام من جهة، كما أن صورة الوضع المستقبلي لإيران بعد الملالي غير واضحة من جهة أخرى. يبدو لي أن أجهزة المخابرات الأميركية لم تعط بعد صورة واضحة لترمب عن بدائل إسقاط نظام الملالي؛ ولذا فهو أعطى الضوء الأخضر بالتفاوض مع إيران مع العلم أن إيران لم يعد لديها بديل سوى التفاوض. في الواقع، احتمال نية ترمب لإخراج الصينيين والروس من السوق الإيرانية والاستيلاء عليها قد تكون حافزاً له بصفته رجل أعمال أميركياً.
ويبدو أن المحادثات التمهيدية بدأت بالفعل على كلا المسارين، وبشكل سري من قبل الوسطاء، حيث ليس لإيران خيار آخر وقد وافقت على التفاوض على مضض، رغم أنها لا تريد القبول بخطة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ذات البنود الـ12. ولذا تحاول طهران اعتماد استراتيجية المفاوضات غير المنتظمة عن طريق المماطلة وشراء الوقت لكي تقاوم الضغوط على الأقل سنة أو سنة ونصف السنة، حيث تعتقد وتراهن على أنه في حال خسر ترمب الانتخابات الرئاسية، سوف يعود الديمقراطيون إلى السلطة، وسوف يعلنون استئناف الاتفاق النووي من جديد.
لذا؛ تحاول إيران المراوغة حتى المؤتمر العام للديمقراطيين في ميلووكي، في منتصف يوليو (تموز) 2020 عندما يتقرر من سوف يواجه ترمب من بين المتنافسين الثلاثة، بايدن أو ساندرز أو إليزابيث وارن. ولا داعي للانتظار حتى المؤتمر الجمهوري في 27 أغسطس (آب) 2020 في شارلوت؛ لأن ترمب سيكون بالتأكيد المرشح الجمهوري. ومن الواضح أن طهران تفضل أن يكون المرشح الديمقراطيين هو جو بايدن؛ لأنه سيتبع سياسة أوباما، ويعود مباشرة إلى الصفقة النووية. كما أنه كان صديقاً لإيران وتربطه علاقات عميقة وطويلة وممتدة معهم.
لذا؛ إذا افترضنا بأن إيران تبدأ مفاوضات في بداية يوليو 2019، وتقوم بإرسال فريقها الدبلوماسي إلى المفاوضات، ستكون المهمة الأولى هي التراجع عما يريد بومبيو، في محاولة لفك الارتباط بين القضايا الثلاث التي تهم الولايات المتحدة والغرب: أولاً موضوع التخصيب، وثانياً، الأسلحة النووية بما فيها الصواريخ الباليستية، وثالثاً سياسة التوسع الإقليمي.
هذا بينما تنص خطة بومبيو ذات الـ12 بنداً على ضرورة تنفيذ هذه الشروط الثلاثة أساساً لأي مفاوضات أو توافق مستقبلي.
إيران على العكس من ذلك، تريد التفاوض بشأن كل بند على حدة؛ ولذا برأيي سيرفض الأميركيون ذلك في البداية، وسيصرون على التفاوض على جميع النقاط الـ12، وهذا سيستغرق بضعة أشهر لحلها، لكن الولايات المتحدة في نهاية الأمر سوف تقبل بذلك لتمشية عجلة التفاوض.
في غضون ذلك، ستكون عطلة عيد الميلاد فرصة للاستراحة وإعادة ترتيب الأوراق وسوف تستأنف المفاوضات في العام الجديد في منتصف يناير (كانون الثاني) بعد خطاب الاتحاد السنوي، الذي سوف يلقيه الرئيس ترمب. وبذلك تكون طهران قد ماطلت بذكاء، لكن لديها 6 أشهر أخرى لشراء الوقت.
ووفقاً لقاعدة «الثمار المعلقة أولاً» في المفاوضات، سوف تبدأ إيران بالموافقة على التفاوض بشأن البنود التالية من خطة بومبيو، وهي: البند 5، وهو إطلاق سراح جميع المواطنين الأميركيين المحتجزين لدى إيران، وهو أمر سهل بالنسبة لإيران ويمكن حله خلال شهر واحد. ثم البند 9 وهو سحب جميع القوات الإيرانية وميليشياتها من سوريا، وهذا أيضاً قابل للتطبيق لأن إيران تدرك أنها لا تستطيع استمرار الإنفاق على 60 ألف عنصر من جنود ومرتزقة ودفع رواتبهم مع استمرار الضربات والغارات الإسرائيلية المستمرة.
ثم تأتي البنود 6 و7 و8 و12، وهي حول إنهاء دعم إيران للحوثيين و«حزب الله» و«حماس» و«الجهاد الإسلامي» والخروج من العراق وأفغانستان. كما تشمل أنها السلوك العدواني والوقف الكامل للتهديدات ضد المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين، بالإضافة إلى التعهد بعدم تهديد إسرائيل، فضلاً عن وقف تهديد الملاحة في الخليج العربي ووقف الهجمات السيبرانية.
أعتقد أن كل هذه البنود قابلة للتنفيذ نظراً لأن هزيمة الحوثيين باتت وشيكة على يد التحالف العربي والتنازل عن الحوثي، ووقف التهديدات ضد السعودية والإمارات ستمنح إيران فرصة أكبر لإحراز تقدم في المفاوضات.
أما البنود 2 و4 و6 و11 فهي تخص تخصيب اليورانيوم والتفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ووقف إنتاج وتطوير واختبار الصواريخ الباليستية وإنهاء العمليات الخارجية قوة القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني، فسوف تكون أصعب بنود التفاوض برأيي.
لكن خلال هذه الفترة، إذا سارت المفاوضات كما افترضنا، سيكون المؤتمر الديمقراطي قد قدم مرشحه؛ لذا سوف تكون إيران في وضع يمكنها أن تخاطر بالإصرار على عدم تنفيذ الشروط الصعبة وتستمر والمماطلة والمراوغة وربما توقف المفاوضات حتى تظهر نتيجة الانتخابات الأميركية. لكن كل هذه الافتراضات قابلة للتغير إذا سارت الأمور باتجاه التصعيد، أو إذا فاز ترمب بولاية أخرى أو حتى يحدث تغيير مفاجئ في إيران جراء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتدهورة.