يصعب أن تمر ذكرى نهار الخامس والعشرين من يناير، بعد يوم غدٍ، بلا استذكار ما حصل، ليس في مصر وحدها، بل في عالم عربي لم يتوقف عن تسديد فاتورة ذلك الذي حُمِّل وصف «الربيع العربي» منذ 25-1-2011. وصولاً إلى واقع اليوم، وحتى إشعار غير معلوم، إذ سوف يتواصل دفع الثمن، بأشكال شتى. فيما يخص مصر، ها هي الذكرى تحل فيما ترتفع أصوات داخلها، ثم تجد لها صدى على بعد آلاف الأميال، تريد القول إن ما جرى يوم 25 يناير يجب أن يتكرر. ما المُراد بهكذا زعم؟ بلا تحايل، أو تنميق للكلام، وبلا دَوَران حول ميادين ربما تختلف أسماء مُهندسيها، إنما تلتقي أهدافها عند هدف محدد، يمكن القول إن المطلوب من محاولات جر شعب وادي النيل إلى فوضى ما قبل، وما بعد، «ميدان التحرير» هو، باختصار، أن مصر يجب ألا تستقر.
مَن ذا الذي يسعى، بكل جهد أوتي، إلى زعزعة الاستقرار في أرض الكنانة؟ أيضاً، بشديد الاختصار، هو كل مستفيد من عالم عربي مضطرب، تعصف بأمن شعوبه هواجس الخوف من الغد عِوض استبشار الناس بالأمل مع شروق شمس كل نهار جديد. تكاد كل نظريات التحقيق الجنائي في اكتشاف مرتكب جريمة ما، أن تتفق على أن الإجابة عن سؤال محدد يقول: من المستفيد؟ سوف تؤدي، أو تيسر، للوصول إلى معرفة الجاني. واقع عالم العرب اليوم، يؤكد حقيقة أن أغلب دول ما سُمي «الربيع العربي» وقع فريسة جرائم أراد مرتكبوها بشعوب تلك الدول شراً ما بعده شرٌ.
مثلاً، قل في حكم معمر القذافي ما شاء لك القول، إنْ في غرائب تصرفات الشخص ذاته، أو في عجائب تقلبات نظام جماهيريته، من قرارات «مؤتمر الشعب العام»، إلى ممارسات «اللجان في كل مكان»، إضافة إلى كل ما طبع حكمه من طبائع استبداد الحاكم الفرد، بما في ذلك قتل أي معارض أمكن للجان الثورية الوصول له، أو لها، في الداخل وفي الخارج. حقاً، قُل في ذلك كله ما يحق عليه القول الحق، لكنه لن ينفي حقيقة أن حكم معمر القذافي كان بمثابة سد حال دون تغلغل نفوذ إسرائيل في أفريقيا، والأرجح أن نجاح بنجامين نتنياهو، رئيس وزراء تل أبيب، في اختراق دول أفريقية، آخرها تشاد، لم يكن ممكناً، أو على الأقل سهلاً، لولا أن تمزق ليبيا حصل فعلاً، وعلى النحو الذي فتح أبوابها من الجهات الأربع أمام كل أنواع التهريب، بشراً وسلاحاً، تطرفاً وإرهاباً.
مثل ثانٍ، معروف أن ما جرى في العراق وله، سابق لعواصف «الربيع العربي»، وهو في أغلبه نتيجة صنع صدام حسين نفسه، قبل غيره، إنما قُلْ في بطش النظام العراقي ما شاء لكلمة الحق القول، فيه وعليه، سواء فيما جبل عليه رأس الحكم ذاته، أو وحشية تصرفات منتسبين لحاشيته، أو ممارسات النظام وأجهزته، رغم ذلك كله، يبقى من الواضح لكل ذي بصر وبصيرة أن العالم العربي فقد بتمزق بلد في حجم العراق، وأهميته، وثرواته، مركز ثقل ضاع ليس فحسب عربياً، بل هو تمزقٌ ضيَّع على العراقيين أنفسهم سنيَّ استقرار وأمن تقترب، عدداً، من العشرين.
بالطبع، سوف يُقال إن هذا كلام متباكين على نظم استبداد وطغيان. كلا، إطلاقاً، بل ذلك قول يحاول الدفاع عن أفعال معظم الذين أتوا بعد إزاحة أنظمة حكم أساء أهلها استخدام ما قُدِر لهم من أنعُمٍ، فأحلوا ديار أقوامهم البوار، بأن حلّ محلهم من أساء أكثر منهم. إزاء هكذا محاججة، يمكن الرد على محترفي جدل المقاهي السياسية، أنْ حسناً، لماذا العجب إذا بكى بسطاء الناس على يومٍ بكوا منه، بعدما اكتووا بما جاء بعده؟ ثم، حقاً، إذا كان بديل المستبد، بأي مكان، ضياع استقرار البلد، يليه اهتزاز أمن الناس، فتراجع فرص العيش الكريم، وصولاً إلى فقدان وحدة البلاد، إذا كان البديل هكذا، فمرحباً ببقاء كل حكم مستبد ليس بمانعٍ المواطنين، غير المتصادمين معه، النوم في بيوتهم بأمان.
عود على بدء، إن الداعين إلى تكرار 25 يناير في مصر، سواء قصدوا، مدركين، أو لم يقصدوا، غافلين، إنما يدفعون البلد نحو فوضى قد يصعب أن ينجو شعب المحروسة من تبعاتها حتى زمن بعيد، فهل يفيقون قبل فوات الأوان؟!
TT
25 يناير ثانٍ؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة