بدت اللحظة غير عادية، اختلطت فيها غرابة الموقف مع ضرورات الواقع. قال مذيع، أو مذيعة، عبر عشرات منابر التلفزة والإذاعات، إن خمس دقائق فقط تفصل الناس عن إجراء لم يسبق له مثيل، إذ فور تعانق عقربي الساعة سوف تدق أجراس «بيغ بن» اثنتي عشرة مرة، ثم تتوقف أربع سنوات، أيُعقل هذا؟ تساءل كثيرون، أتصمت الساعة الأشهر في العالم، فلا يُسمع لها رنين حتى عام 2021؟ أجاب خبراء مختصون يحكم العقل قرارهم بما خلاصته أن لضرورات الترميم متطلبات إن لم تُلبَ، قد يؤدي تراكم الخلل إلى مشكل يستمر لأمد طويل.
فيما أتابع المشهد أول من أمس أمام مجلس العموم البريطاني، حيث تجمع أناس من مختلف الجنسيات، يعايشون لحظة غير مسبوقة في تاريخ ساعة يرجع إلى عام 1856، رحت أتساءل: تُرى، ماذا عن ساعات أمم أصابها التجمّد فتوقفت عقاربها عند تواريخ ليست تغادرها، يظن نفرٌ ممن يجمّدونها أن بوسعهم أسر الزمن وفق رؤاهم، فلا هو يمضي إلى الأمام، ولا يرجع إلى بريق الماضي ليضيف إليه، يطوّر منهاجه، ينقي شوائبه، ويدفع به كي يشع على البشر في جهات الأرض الأربع بمعرفة تواكب العصر، عِوض التصادم معه؟
هل من مثال؟ نعم، بل كثيرة هي الأمثلة. أبدأ بمثل مما أورده قارئ، تعقيباً على ما ورد في هذه المساحة الأربعاء الماضي. يرى حسان الشامي أنه من الصعب جداً أن «يُقنع أحد بالكون القيادات الفلسطينية أنهم على طريق الخطأ القاتل والمدمر لقضيتهم. احتضنهم أكثر الشعب اللبناني، ووقف وقاتل إلى جانبهم، وتحمل الضربات الإسرائيلية والخوف والرعب اليومي من قِبل سلاح الجو الإسرائيلي، فكانت مكافأة التنظيمات، كل التنظيمات الفلسطينية دون استثناء، للشعب اللبناني القتال اليومي من شارع إلى شارع، ومن منزل إلى منزل، فزرعوا الرعب في نفوسهم. والأنكى من ذلك، تصرفوا كأنهم هم السلطة الحاكمة، يزجون بالسجون من يريدون، ويحاكمون من يشاءون، ويتهمونهم بالعمالة تارة لإسرائيل، وتارة للدولة اللبنانية التي هي دولتهم وجيشهم». يضيف القارئ المتألم في موضع آخر من تعقيبه: «أتكلم بحرقة لأنني ناضلت في صفوفهم بأغوار الأردن عام 1968 وفى جنوب لبنان في 1971، فلمست وأيقنت أن الثورة الفلسطينية إلى زوال». نعم، بكثير ألمٍ وأسفٍ، لو أن عقارب ساعات أغلب القيادات الفلسطينية لم تتوقف عند أنانية مصالح التنظيمات، وتكريس تقديم الذات على الصالح العام، بدعوى احترام مكانة «الرموز»، فالأرجح أن الوضع الفلسطيني، ما كان بلغ الحال الذي هو عليه الآن.
مثال ثانٍ: الخميس الماضي، ضرب شر إرهاب سفك دماء البشر الأبرياء في برشلونة. في اليوم ذاته، يحصل أن ملالا يوسف زاي، المنتصرة على ظلام الجهل ببلدها باكستان، تتلقى عرض تلقي العلم بإحدى أعرق جامعات الأرض. حقاً، هو تكريمٌ يضاف إلى تكريمها بجائزة نوبل للسلام، أنْ تعرض جامعة أكسفورد على الشابة ملالا مقعدَ درسٍ في رواقها، وهي الجامعة التي تتوق إليها أنظار طلاب علمٍ كُثر بالمشارق والمغارب. فيها تعلمت ومنها تخرجت مواطنتها بي نظير بوتو، المغدورة اغتيالاً هي أيضاً. انظر الفارق بين ساعة ملالا التلميذة، إذ تحث السعي نحو المستقبل، وساعات عقول إرهابيي برشلونة المتجمدة عند زمن الخوارج، وما أنتج من حجج تبرير سفك الدماء وإشعال الفتن.
مثال ثالث: حتى في بلاد مثل الولايات المتحدة، اكتسبت من آثام حروبها الأهلية ما أغرقها في بحور دماء العنصرية وظلمات ظلمها، هناك ساعات لم تغادر تلك الأزمنة، ولم تزل عقاربها متجمدة في أدغال غابات التمييز بين بني الإنسان من منطلق اللون والعرق. إذنْ، كما أن مجتمعات العالم الإسلامي ابتُليت بفكر متطرف يشبه في خطورته خطر التلوّث الإشعاعي - وصف دقيق سمعته من كاتبة صحافية ذات ثقافة راقية وخبرة معتبرة - يبدو واضحاً أن دول العالم الصناعي مبتلاة بعقول تجمدت ساعاتها هي أيضاً، مثل الأميركي ديفيد ديوك، أحد المحرضين على عنف شارلوتسفيل العنصري بفرجينيا الأسبوع الماضي.
أن تتوقف أجراس «بيغ بن» لأربع سنوات أمر يُحزن أهل هذه الديار. تُرى، أيكتفي بالحزن أقوام ديار هناك من يصر على تجمّد زمن ساعاتها، أم حري بهم الإصرار على تحديث الحاضر، وبناء أسس الغد الأفضل؟
7:52 دقيقه
TT
صمت ساعة وتجمّد ساعات
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة