د. عبد الله بن خالد بن سعود الكبير
أستاذ مساعد بكلية العلوم الاستراتيجية بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية وباحث زائر بالمركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي - جامعة كينغز كوليدج - لندن.
TT

«رمتني بدائها وانسلّت»

في لقاء معه في تشاثام هاوس بلندن، الأسبوع الماضي (19 يوليو/ تموز)، ذكر الدبلوماسي الإيراني وزير الخارجية الأسبق كمال خرازي أن موقف إيران ضد الإرهاب التكفيري هو سبب عداء السعودية لها. قبل ذلك بيومين، كان جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني الحالي، ضيفاً على مركز مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة (American council on foreign relations)، حيث ذكر أن السعودية استطاعت أخيراً أن تجلب الإرهابيين إلى برلماننا، في إشارة للهجوم الذي تبناه «داعش» في طهران، في 7 يونيو (حزيران) الماضي، لأنه يرمز لديمقراطيتنا التي يفتقدون إليها.
لا أعلم حقيقة إن كان الساسة والدبلوماسيون الإيرانيون فعلاً مصدقين لما يتفوهون به أم أنهم يتعمدون الكذب والخداع. ولكن في كلتا الحالتين ينطبق عليهم قول الشاعر:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
لن أستعرض هنا مواقف وجهود المملكة في مجابهة الفكر المتطرف ومحاربة الإرهاب، فقد شهدت بذلك الأمم. كما لن أتطرق لحقيقة «ديمقراطية» إيران في ظل ولاية الفقيه، ولا للدعم الإيراني للجماعات الإرهابية الشيعية، فالإرهاب في منطقتنا ليس سنّياً فقط، فتوضيح الواضحات من المعضلات. ولكني سأبيّن بالحقائق المثبتة في شهادات المحاكم، وبعض شهادات ومذكرات الإرهابيين أنفسهم، تاريخ «الزواج المصلحي» بين القيادة والاستخبارات الإيرانية وجماعات الإرهاب السنّي، وعلى رأسها «القاعدة»، الممتد لأكثر من عقدين من الزمن حتى الآن، وهو دليل واضح على أن فكر التطرف يتجاوز الاختلافات المذهبية والعقدية، وإن تشبّث بها علناً، في سبيل تحقيق المصالح المشتركة. فالإرهاب ظاهرة سياسية في المقام الأول والأخير.
في ثمانينات القرن الماضي، كان تضامن إيران مع جماعات العنف المصرية، مثل الجماعة الإسلامية و«جماعة الجهاد»، واضحاً وجلياً. فقد أصدرت طوابع احتفالية بقاتل الرئيس المصري السادات، خالد الإسلامبولي، وسمّت شارعاً في طهران باسمه. كما دعمت كثيراً من قيادات هذه الجماعات، من أهمهم أيمن الظواهري، حيث قدّموا لجماعته، بعد طلب منه، الدعم المادي والتدريب المسلّح في كل من إيران والسودان ولبنان، مع جماعة «حزب الله»، وذلك بحسب شهادة علي محمد، عضو ومدرب في تنظيم القاعدة سابقاً.
وفي التسعينات، وحين كان أسامة بن لادن مقيماً في السودان، أرسل سيف العدل وأبو حفص الموريتاني إلى طهران لبحث ترتيب تعاون مفيد للطرفين. بناء على ذلك، تمت دعوة مقاتلي «القاعدة» من قبل إيران للتدرّب على المتفجرات والعمليات الانتحارية، في معسكر يديره فيلق القدس، التابع للحرس الثوري الإيراني، و«حزب الله» في البقاع اللبناني. كما أظهرت سجلات هاتف بن لادن، في الفترة التي سبقت تفجير السفارة الأميركية في نيروبي ودار السلام عام 1998، أن 10 في المائة من مكالماته ونوّابه كانت متّجهة لإيران.
أيضاً، كانت إيران مقراً لكثير من اجتماعات مجلس شورى الجماعة الإسلامية في الخارج، في النصف الأخير من التسعينات، وذلك بحسب مذكرات محمد خليل الحكايمة، أحد قيادات الجماعة الذي كان يقيم في طهران لمدة عام قبل انتقاله لبريطانيا، ومن ثم انضمامه لـ«القاعدة». الجدير بالذكر أن الحكايمة هو أحد المشتبه بتأليفهم لكتاب «إدارة التوحش»، الذي يعد دستوراً لجماعات العنف والإرهاب، تحت الاسم المستعار أبو بكر ناجي.
وبعد انتقال «القاعدة» إلى أفغانستان في 1996، استمرت إيران في تقديمها للدعم لـ«القاعدة»، والتنسيق مع قياداتها، وسهّلت الدخول عبر منافذها لكل من أراد الذهاب من وإلى أفغانستان، مع إصدارها الأوامر لمفتّشي حدودها بعدم ختم جوازات «الجهاديين» المنتقلين عبر أراضيها.
وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، استمر توفير المعبر والملاذ الآمن للمئات من القاعديين والمتطرفين الهاربين من أفغانستان وعائلاتهم، وذلك بعد أن أتت الموافقة من قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني بذلك. وبحسب القيادي الأمني في «القاعدة» سيف العدل، الذي لعب دوراً مهماً في التنسيق لتأمين منافذ الهروب، مع أبو حفص الموريتاني، وجمع شتات «القاعدة» بعد القصف الأميركي لأفغانستان:
«بدأنا بالتوافد تباعاً إلى إيران، وكان الإخوة في جزيرة العرب والكويت والإمارات من الذين كانوا خارج أفغانستان قد سبقونا إلى هناك، وكان بحوزتهم مبالغ جيدة ووفيرة من المال؛ شكلنا حلقة قيادة مركزية وحلقات فرعية، وبدأنا باستئجار الشقق لإسكان الإخوة وبعض عائلاتهم».
استمرت حرية التحرّك والإقامة في إيران لقيادات «القاعدة»، وغيرهم من المتطرفين المحسوبين على جماعات أخرى، كالجماعة الإسلامية المقاتلة بليبيا، خلال عام 2002 وبدايات 2003. وبعد ذلك، بدأت السلطات الإيرانية بوضعهم تحت الإقامة الجبرية في مجموعات، في مناطق ومدن مختلفة.
ولكن على الرغم من ذلك، لم تمنع إيران، بل ربما سهّلت، هؤلاء القادة من التواصل مع الأفرع والأذرع الإقليمية التابعة للتنظيم. وبحسب شهادة المتحدث السابق لـ«القاعدة» سليمان أبو غيث لمكتب التحقيقات الفيدرالي، فقد تم وضعه هو وسيف العدل وأبو محمد المصري وأبو الخير المصري تحت الإقامة الجبرية في مبنى للاستخبارات الإيرانية بطهران، من نهاية أبريل (نيسان) 2003 لمدة 20 شهراً، قبل أن يتم نقلهم لمكان آخر. وعلى الرغم من ذلك، فقد تم لاحقاً الكشف عن اتصالات من كل من سيف العدل وسعد بن لادن، ابن أسامة، الذي كان يقيم هو وأفراد العائلة جميعاً في إيران، تبيّن ضلوع القيادات الموجودة في إيران بالتخطيط والتوجيه والأمر بتفجيرات المجمعات السكنية بالرياض، في مايو (أيار) 2003.
وفي رسالة كتبها عام 2007 لأحد أتباعه، ذكر أسامة بن لادن أن «إيران هي شرياننا الرئيس الذي يمدنا بالأموال والرجال وقنوات الاتصال، إضافة إلى مسألة الرهائن؛ لا يوجد ما يستوجب الحرب مع إيران، إلا إذا اضطررت إلى ذلك». وبعد اندلاع الثورة السورية، استمرت إيران في توفير خطوط النقل للأموال والمقاتلين، وكان من أهم من تولّى التنسيق في ذلك مع السلطات الإيرانية عز الدين عبد العزيز خليل (ياسين السوري)، ومحسن الفضلي وهو أحد المقربين من بن لادن، وذلك قبل أن يترك إيران متجهاً إلى سوريا، ليقتل في غارة أميركية هناك في منتصف 2015م.
لم ينقطع هذا الزواج المصلحي بين إيران وجماعات الإرهاب حتى يومنا هذا. فقد ذكر تقرير الخارجية الأميركية السنوي الأخير عن الإرهاب، الذي تم نشره في يوليو 2017، أن إيران لا تزال ترفض الإعلان عن أعضاء «القاعدة» الذين في قبضتها منذ عام 2009 على الأقل. كما أنها «سمحت لوسطاء (القاعدة) بتشغيل خط إمداد رئيسي في جميع أنحاء البلاد، مما سمح لـ(القاعدة) بنقل وتحويل الأموال والمقاتلين إلى جنوب آسيا وسوريا».
لا شك أن الدعم الإيراني لجماعات الإرهاب السنّي على مدى السنوات لم يكن استراتيجياً مبنياً على توافق في الرؤى، وإنما تكتيكياً مصلحياً حسب ما تمليه الحاجة وظروف المرحلة. إلا أن تاريخها في هذا الملف لا يشفع لها بأن تحاضر أحداً أبداً، ولا أن توزّع الاتهامات في كل محفل. وإن فعلت، فالرد لا يتجاوز ثلاث كلمات: «رمتني بدائها وانسلّت».