د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

سحر السياسة والسياسي الساحر

كلما واجهت النخب السياسية الحاكمة في بلداننا العربية نقداً وسخطاً جارحين إلا وكان الرد من بعض الساسة بأنهم ليسوا سحرة ليعالجوا المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في أشهر، وأنهم لا يمتلكون العصا السحرية. هكذا تدافع أغلب حكوماتنا عن فشلها في إشباع توقعات الشعوب وحل المعضلات الحارقة ذات الصلة بمشكلة البطالة وغلاء الأسعار والمديونية وظاهرة تراوح دوران عجلة الاستثمار بين البطء والتوقف.
الملاحظ أنّ كلمة السحر حاضرة لتأمين الدفاع عن النفس وإظهار حجم المعضلات، وللتذكير بأن رجال السياسة ليسوا سحرة ولا يتمتعون بقوة خارقة للعادة، وأيضاً هناك رسالة مستبطنة مفادها بأن معالجة الأوضاع الراهنة بسرعة وإيجاد الحلول المناسبة يحتاجان إلى السحر، وذلك في إشارة إلى صعوبة الوضع.
وإلى جانب هذا التوظيف المقصود والموجه لمعاني السحر مع تحويل واضح لوجهة المدلولات، فإننا نرى أن السحر حاضر في علاقتنا بالسياسة بشكل عام وبأشكال متعدّدة.
في البداية هناك ما يمكن أن نسميه سحر السياسة: عالم السياسة ساحر بطبعه، لأنه مقرون بشهوة السلطة وممارسة الحكم. وتتضاعف حدة هذه الشهوة في البلدان عديمة الديمقراطية أو الحديثة العهد بها، لأن السلطة لا تحظى بما يسميه عالم الاجتماع برتران بادي بدوران النخب، أي هناك استئثار بالحكم من طرف مجموعة معينة. لذلك نلاحظ في بعض بلداننا التي تبنت النظام الجمهوري ولم تستوعب بعد القيم الجمهورية، نوعاً من التكالب على الحكم والغالبية يريدون أن يدخلوا عالم السياسة ولهم طموحات سياسية سواء يتمتعون بشروط السائس أو لا. ففي تونس مثلاً كان عدد الأحزاب قبل الثورة بالكاد يصل إلى تسعة أحزاب وبعدها أصبح يتجاوز المائتي حزب، الأمر الذي جعل البعض يصف الظاهرة بتسونامي الأحزاب، وهي في الحقيقة ظاهرة تعكس التعطش لممارسة السياسة بعد حرمان طويل من التجاوب مع سحرها الذي يتقاطع مع رغبة الإنسان في الحكم.
إذن للسياسة سحر مضاعف على نخبنا العربيّة وهي تحت وقع سحرها. وربما هذه النقطة تسمح لنا بتفسير أسباب انخراط الأحزاب السياسيّة المشاركة في الانتخابات أثناء الحملة الانتخابية في تقديم الوعود دون حساب ورفع سقف الوعود إلى حدّ الخيال، باعتبار أنّهم واقعون تحت سحر إمكانية الوصول إلى الحكم.
في مقابل الاعتراف بسحر السياسة ودغدغتها لشهوة الحكم وحبّ السلطة، نجد أن الساسة لدينا ما أن يصلوا إلى الحكم ويفوزوا بأكثرية الأصوات حتى يتخلوا عن كلمة السحر التي تتناقض ومقتضيات فن الممكن. أي ينتقل الخطاب من السحر والخيال السياسي الساحر إلى ضغط الواقع والممكن.
طبعا الساسة ليسوا سحرة ولا يملكون العصا السحريّة التي تقضي على مشكلات البطالة بين ليلة وضحاها وتنجي الشباب من شباك الإرهاب وشبكاته. ولكن المطلوب ممن يرون أنفسهم أهلاً للحكم، وهو ما يغيب عن النخب السياسية في بلداننا هو أن يجدوا الحلول للمشكلات، وأن يقدموا البديل الاجتماعي والاقتصادي، بل إنّهم قدموا وعوداً وبسببها فازوا في الانتخابات، والمنتظر منهم هو الإيفاء بتلك الوعود وإشباع توقعات الذين راهنوا عليهم سياسياً ومنحوهم ثقتهم من خلال التصويت لصالحهم.
إنّ السياسة هي فن الممكن، والسائس هو شخص يتمتع بخصائص تمكنه من القيادة ومن أن يقدم الحلول. دور السائس هو تقديم الحلول لا التنصل من المشكلات. أما النخبة التي تعلن عن كونها ليست ساحرة ولا تمتلك العصا السحريّة فهي كأنّها تقر بعجزها وفشلها، ولكن بتوخي خطاب هجومي غير مسؤول؛ فالذي لا يمتلك الحلول لا يدخل السياسة ولا يقترح نفسه معالجاً للمشكلات، بل يجب أن يترك المجال لغيره.
نحن نشهد اليوم لحظة اقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة صعبة جداً، لذلك فإن المشاركين في الانتخابات من واجبهم قبل الاستسلام لسحر السياسة والمناصب والحقائب الوزاريّة أن يتمعنوا جيداً في حجم التحديّات قبل أن يعلنوا أنفسهم فاتحين للتنمية والتقدم والرفاهيّة الاقتصاديّة.
أيضاً نُلاحظ أن شعوبنا لا تُدقق في البرامج الانتخابيّة وما زالت في اللاوعي تولي إعجاباً لمن هو أكثر قدرة على الدمغجة السياسيّة، الأمر الذي يجعل المترشحين للانتخابات يتنافسون حول هذه القدرة على الدمغجة مهملين الجانب الأساسي: البرنامج السياسي ومقارباتهم للمشكلات التي يعاني منها الشعب. والمشكلة أن ظاهرة التهاون في البرامج والأداء العملي الفعال لا تشمل الأحزاب الحديثة التأسيس في بلداننا فقط وإنّما حتى العريقة منها التي تتعامل مع العمل السياسي بخفة وشعارات، رغم أنّها تتمتع بقاعدة شعبية من المفروض أن تكون عامل تحفيز لممارسة السياسة بجديّة.
إنّ للسياسة سحراً خاصاً، والنّخب السياسيّة وإن كانت بالفعل ليست سحرة ولا تمتلك العصا السحريّة، فإن المؤكد أنّه يجب أن تكون مالكة للحلول والبدائل، وهو ما تتجاهله قصداً نخبنا التي تريد الامتيازات دون أن تبتكر لنا الحدّ الأدنى من الحلول.