فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

القوم وأرض التيه... حين «أضلّهم السامري»

بعد أن نجى الله موسى وقومه من فرعون وملئه من غطرسته وبطشه، شرعوا متجهين إلى فلسطين، وفي الطريق رأوا قوماً آخرين يعبدون أصناماً من دون الله، فطلب قوم موسى منه أن يجعل لهم صنماً يعبدونه مثل هؤلاء، فأنكر عليهم، وواصلوا المسير وحين غاب موسى عن قومه في جبل الطور أوصى عليهم أخاه هارون، إلا أن رجلاً من بينهم كان شديد المكر، ولديه حيلة اسمه «السامري»، أخذ من قوم موسى الذهب، وصهره فصار عجلاً جسداً له خوار، وفيه نزلت آيات في سورة طه، لقد أضلّ السامري قوم موسى بمكره وحيلته، وتلك كانت شخصية تتكرر على مر التاريخ، تعرف بزرع الكراهية بين الأطراف.
قريب منها شخصية أخرى - لكنها على عكس حقيقة السامري فإن ثبوت وجودها موضع شك - إذ أنكر جمع من المحققين حقيقة وجودها في صدر الإسلام باعتبار ضعف الأحاديث التي دلّت عليها بسبب الجرح برواية سيف بن عمرو المشهور برواية أحاديث الفتن، إنها شخصية عبد الله بن سبأ ورغم الشك بصحتها غير أن ثيمة الشخصية تتكرر وتجد لها طريقها بين الشعوب، والمجتمعات، وتندس نافثة الكره بين الناس.
لكن لماذا التحذير في هذا الوقت من واستذكار الدروس من التاريخ، والتحذير من شخصيات قد تضرّ بعلاقات الدول ومصالح الشعوب؟!
لقد برز هذه الأيام اسم النائب السابق في الكنيست الإسرائيلي عزمي بشارة، وذلك بعد نفاد صبر دول عربية وإسلامية من تصرفات دولة قطر، وتعزى إليه كثير من الخرائط التي رسمتها قطر في الربيع العربي، وله مئات الفيديوهات التي تتعلق بالثورات، وله مقطع صارخ يتوعّد به السعودية، وتعزى إليه هندسة علاقات قطر مع إسرائيل، واتصالها مع «حزب الله»، وحركة حماس، فهو مؤسس فكرة اللعب على «التناقضات» والتي تبنتها دولة قطر. وقد كانت التصرفات القطرية الأخيرة تتعلق بتعاون مكثف مع الأعداء، وأشار بيان مجلس الوزراء السعودي برئاسة خادم الحرمين إلى «تعاون سري وعلني» لدولة قطر مع الأعداء، وفي بيان قطع العلاقات وردت عبارة تتحدث عن دعم قطر للإرهابيين في «القطيف».
عزمي لا يخلط بين فكره النظري الذاتي، وبين أفكاره السياسية، فهو يشجّع جماعات الإسلام السياسي بأطروحاته السياسية، ولقاءاته الإعلامية، وحين فاز الرئيس ترمب أصدر هو ومركزه مقالات ودراسات «تقدير موقف» تتحدث عن الضياع الذي ستشهده المنطقة بعد رحيل أوباما، وعدم فوز هيلاري كلينتون، ولم يكن البعض يدرك سبب الهجوم منه على ترمب بهذه الصيغة، وذلك لضعف ربطهم بين عزمي وبين جماعات الإسلام السياسي، التي تؤوي قطر رموزها، وبطبيعة الحال ترمب لا يتسامح مع هذه الجماعات الإجرامية بل يعتبرها إرهابية، من حركة الإخوان وحماس إلى «القاعدة» و«داعش» و«حزب الله». وحين غرّد ترمب عن أن قطع العلاقات إحدى نتائج زيارته للمنطقة في الشرق الأوسط، وأنه بداية الحرب الجدية على الإرهاب، بان لمن لم يفهم سبب غضبة عزمي الفوريّة من فوز دونالد ترمب.
ثم إن عزمي نشأ شيوعياً خالصاً، وتأثر كثيراً بالنظرية الماركسية وبالخصوص بالتحليل الاجتماعي، وهو لا يتفق مع الإسلاميين تقريباً إلا بفكرة واحدة وهي الحالة الثورية، والتوق إلى الأنماط الشمولية، وإلا فهو يختلف مع حلفائه وتلاميذه بأنه ينظر للأديان، ففي كتابه «الدين والعلمانية في سياقٍ تاريخي - الجزء الأول» لا يخفي نظرته التاريخية للأديان، وللقارئ أن يعود لهذا الكتاب ويطلع على ما كتب في ص222 وما إليها.
هذا النص يكشف عن توجه عزمي الفكري النظري، ويفصح عن «براغماتية» نظرية، فهو من جانب صديق الإسلاميين والصحويين والسروريين، والفاتح لهم مركزه ومكتبه والمانح لهم جوائزه، والموظّف لهم بوسائله، ومن جهة أخرى الشيوعي الناظر إلى معظم قناعات أولئك على أنها «حالات تاريخية»، وهم يغضّون طرفهم عن نظرته الفلسفية الدقيقة للدين وليقرأ حواريوه إن استطاعوا ممن يضربون بخيلهم ورجلهم إليه نُعلاً وحفاة كتاباته النظرية، ليكتشفوا أن حروبهم على مواطنيهم ممن لم يصلوا إلى هذا القول أو ما يقاربه، إنما هي حرب آيديولوجية بحتة لصالح دولة قطر، إذ يتم تجنيدهم ضد نخبهم إهم في الواقع تلامذة النائب بالكنيست الإسرائيلي وهم يثنون ركبهم خضّعاً خانعين لائذين، لا يستطيعون نقد انتماءاته المعروفة، ولا نظريته في «الدين» ولا يجرؤون على التصريح بأن لديهم أي اختلاف معه، فهو يستخدمهم كالأدوات، بثمنٍ بخس، وهم في غيّهم يعمهون.
إن «الهوى القطري» أغشى أبصار من يفترض بهم امتلاك البصيرة والعقل، فأصبحوا منوّمين مغناطيسياً، يخالفون دولتهم ويتشفّون بنقد نخبهم المخلصة لوطنها، لكنهم ساعة الحرب مع «تصرفات قطر العدائية» كما هي عبارة مجلس الوزراء يغشون ثيابهم ويصمّون آذانهم، ولسان حالهم «ائذن لي ولا تفتنّي ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنّم لمحيطة بالكافرين».
لا يضلنّكم أحد مهما كان اسمه، ومهما تخيّلتهم رسمه، كما أضلّ السامري قوم موسى، حين عجل إلى ربه ليكلّمه، فعبدوا العجل من بعده، فقال موسى مخاطباً ربه «وعجلتُ إليك ربي لترضى»، إنه الصراع بين الحق والباطل، فلينظر كل منكم مع من يصطفّ، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.