سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

وزير البريد

في الأبحاث التي قمت بها من أجل «أوراق السندباد» تبين لي أن «وزير البريد» كان الأكثر أهمية بين وزراء الدولة العباسية، وربما الرجل الثاني في الحكم، مع أن هيغل سوف يقول بعد قرون، إنه «ليس من رجل ثان في أنظمة الشرق». الذي لم أستطع الوصول إلى مراجعه، قبل وضع الكتاب، هو كيف كان يعمل البريد، وكم كان عدد موظفيه ورواحله ورجاله وحمامه الزاجل، الذي كان الأكثر ثقة واعتماداً واقتحاماً من الرجال. غير أنني عثرت يومها على كلام لهيرودوتس، أبي المؤرخين، يصف بريد ملك الفرس في حربه على اليونان ومبعوثيه: «الذين لم يكن يوقفهم مطر أو ثلج أو حر أو ظلام الليل عن القيام (بدوراتهم البريدية)». ودوراتهم هو المصطلح الذي استخدمه صاحبنا هيرودوتس، ولا يزال يُستخدم تقنياً إلى اليوم.
وفي يفاعنا كان ساعي البريد، أو «البوسطجي»، جزءاً من رومانسية المرحلة لأنه كان يحمل رسائل العشاق والمحبين بعيداً عن أعين الرقباء. وقد أقحم في مصر ضمن الأغنية العاشقة التي قالت: «البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي». وقد يخيل إليك أن الساعي سمّي البوسطجي، لأن البوسطة كانت تحمل الرسائل قبل كثرة السيارات. لا. بل لأننا ترجمناه عن الإيطالية، بوستا.
وقد كتبت لجنابكم غير مرة، كيف كنا في صيف القرية ننتظر وصول ساعي البريد مرتين في الأسبوع. في المرحلة الأولى على فرسه، وفي مرحلة المكننة، تعلم قيادة الدراجة البخارية، وأصبحنا نسمع صوت محركها من بعيد، فنسارع إلى الساحة كي يوزع البوسطجي الرسائل، كمن يوزع الأمل والفرح: رسالة من ابن مهاجر، وأخرى من أب مهاجر، أو رسالة حب موقعة باسم مستعار، أو جريدة لا يهم إن وصلت متأخرة يومين أو عشرة، فلن يتغير شيء في هدوء البال.
عندما سمعنا بالبريد السريع في أوروبا، كنت قد هاجرت البلد إلا زائراً. ثم قيل لنا عليكم بالفاكس. ثم بالـ«دي إتش إل». وأخيراً البريد الإلكتروني، لا فرس ولا دراجة بخارية عتيقة، ولا حمام زاجل. و«الآيباد» كما في وصف هيرودوتس، لا يعيقه ثلج ولا مطر ولا نشرة جوية، وليس له اسم بالإيطالية. إيميل، حتى بالصينية، إلا إذا أصررت على «البريد الإلكتروني».
ما هي الخطوة المقبلة؟ لقد أسأت طرح السؤال. لا «خطوات» بعد الآن، بل قفزات في الأثير الإلكتروني بعيداً بعيداً عن الخيال. ويبقى الحنين مجرد فرس بيضاء مُتعبة، ودراجة نارية صاخبة، وأغنية معاتبة: البوسطجية اشتكوا.