نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

أثر الضوضاء العشوائية في البيانات الاقتصادية

عندما يأتي الناس ويقولون إن خبراء الاقتصاد ليسوا إلا دجالين، فإنهم في أغلب الأمر يذكرون كيف فشل خبراء الاقتصاد في التنبؤ بالركود الكبير. وهذا أمر صحيح. لم يتمكن أي نموذج سائد للاقتصاد الكلي اليوم من توقع أن أكبر وأطول فترة من فترات الانكماش الاقتصادي منذ الكساد الكبير، كانت وشيكة الحدوث، حتى وقعت بالفعل وأصبحت حقيقة واقعة.
وفي العادة يرد خبراء الاقتصاد الكلي بأن التنبؤ ليس من صميم عملهم. وفي الاقتصاد، كل الأمور تسير في أي وقت من الأوقات، كما يقولون، وهناك كثير من العشوائية والضوضاء التي لا تسمح بالتوقعات والتنبؤات الموثوقة. وأفضل شيء يمكنهم فعله هو توقع آثار السياسات المعينة.
وهذا الدفاع ضعيف للغاية. فإذا كان الاقتصاد خاضعاً للضوضاء العشوائية، كما يقولون، فإن هذه الضوضاء سوف تتخلل البيانات الاقتصادية كذلك، المستخدمة في التحقق من صحة نماذج الاقتصاد الكلي المعمول بها. وإذا كان التنبؤ مستحيلاً، فإن اختيار النموذج السليم لتقييم السياسات سوف يكون مستحيلاً أيضاً.
وبالتالي، فإن التنبؤ في واقع الأمر من الأشياء المهمة، ولكن نماذج الاقتصاد الكلي سيئة للغاية في ذلك المجال، بل إن هناك خطاً كاملاً من الأبحاث مخصصاً فقط لإظهار مدى سوء أكثر النماذج تقدماً في الاقتصاد الكلي في التنبؤ بأشياء مهمة مثل النتائج والتضخم.
وأفضل الأبحاث التي لديّ في هذه الأدبيات ترجع إلى ريفيت غوركيناك، وبورسين كيساسيكو، وباربرا روسي. ففي عام 2013. اتخذوا أحد أحدث نماذج الاقتصاد الكلي الحديثة المتاحة في ذلك الوقت - الذي يحمل اسم «التوازن العشوائي الديناميكي العام» - وأخضعوه للاختبار في مقابل بعض من أبسط النماذج التي تحمل اسم «نماذج الانحدار التلقائي». ونماذج «التوازن العشوائي الديناميكي العام» كبيرة ومعقدة للغاية، وهي تستند إلى أطنان من الافتراضات حول المستهلكين، والشركات، والتكنولوجيا، والحكومة، في حين أن «نماذج الانحدار التلقائي» ليست إلا معادلة وحيدة، وتدور حول أبسط نموذج للتنبؤ الاقتصادي يمكن تصوره.
ولكن، وكما اتضح لاحقاً، فإن «نماذج الانحدار التلقائي» البسيطة للغاية قد فازت في هذه المقارنات بقدر ما خسرت. وهذا يعني أن أبرز نماذج الاقتصاد الكلي المعروفة، ومن حيث مدى الصعوبة والتعقيد الذي تتسم به، كانت أقرب إلى انعدام الفائدة تماماً من حيث التنبؤ الاقتصادي، ومنذ أربع سنوات فقط على أدنى تقدير.
وفي السنوات التي تلت ذلك، بذل خبراء الاقتصاد الكلي جُل جهودهم في تعزيز نماذج «التوازن العشوائي الديناميكي العام» بمزيد من العناصر التي تحسن من أفضليتها في ملاءمة البيانات السابقة. ولكن خبراء الاقتصاد الكلي يختبرون أيضاً نماذج التنبؤ التي لا تقدم كثيراً من الافتراضات حول العلاقات الاقتصادية. وفي ورقة بحثية جديدة ومثيرة للاهتمام، فحص خبراء الاقتصاد آندريا كاريرو، وآنا غالفاو، وجورج كابيتانيوس مجموعة واسعة من نماذج التنبؤ الكلي لتفهم أفضل الطرق للتنبؤ بالاقتصاد.
ولم يختبر خبراء الاقتصاد وزملاؤهم مجموعة واسعة من النماذج فحسب، بل نظروا أيضاً إلى كثير من الدول المتقدمة. ولقد اهتم المؤلفون المذكورون بأمرين اثنين فقط؛ النتائج والتضخم. وجاءت نتائجهم غير مشجعة. وبعض النماذج تعمل بشكل أفضل في بعض الآفاق الزمنية المختلفة، ولفترات زمنية مختلفة، ولمتغيرات جد مختلفة. وهذا يعني أن التنبؤ بالنجاحات يرجع في معظمه إلى الحظ المحض.
أما «نماذج الانحدار التلقائي» البسيطة للغاية فقد فازت بقدر ما خسرت في الدراسات التي أجريت في الماضي، على الرغم من مواجهة بعض من أكثر المنافسين المتطورين صعوبة. ومع تطاول أمد آفاق التنبؤ الاقتصادي، تبدأ النماذج البسيطة في العمل بشكل أفضل من غيرها.
والأكثر من ذلك، فإن إضافة عدد قليل من التنبؤات لا يحسّن من التوقعات. وهذا أمر يبعث على الإحباط، بسبب أنه يعني أن بيانات الاقتصاد الكلي لا تشتمل على كثير من المعلومات المفيدة. وهناك مزحة قديمة في وول ستريت تقول: «جميع البيانات المفيدة مالياً تكلفنا أموالاً، وذلك هو السبب في مجانية البيانات الكلية»، ويبدو أنها صحيحة.
ويضاف إلى كل هذا الاستنتاج المتشائم أنه لا يمكن التنبؤ بالركود من واقع البيانات الاقتصادية.
ولكنني غير مستعد حالياً للمشاركة في هذا القدر من التشاؤم الآن. وعلى الرغم من أن حالات الركود يصعب أو يستحيل توقعها واكتشافها على المدى القريب، فربما لا تزال هناك طرق للوقوف على بعض إشارات التحذير التي تتطور عبر سنوات قليلة. وخلصت أبحاث بعض خبراء الاقتصاد في مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى أن الخصائص المعينة لأسواق الديون يمكن أن تبعث بإشارات للتحذير من الركود قبل عامين من وقوعها في المستقبل.
لذا؛ فإن مستقبل التنبؤ بالاقتصاد الكلي - والاقتصاد الكلي ذاته - قد يكمن في اتجاه مغاير عن الذي انتهجه معظم الباحثين وخبراء الاقتصاد. وبدلاً من التركيز على الاستهلاك، والاستثمار، والأمور الأخرى التي يسهل قياسها، قد يحاول خبراء الاقتصاد التفكير في مزيد من التراكم الخفي وطويل الأجل للمشكلات في الأسواق المالية.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»