سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

بندقية وحنان

كان ميالاً إلى العنف: يحب مصارعة الثيران، المقززة. ويدعو أصدقاءه وخصومه إلى مبارزة في الملاكمة، كلما اشتد به الغضب أو السكر. وكان يذهب إلى الحروب في متعة المشارك، لا فضول المتفرج. وكان سريع الزيجات، سريع الطلاق. وما بين تلك وهذه، علاقة من هنا وخيانة من هناك. وبقدر ما كان مراسلاً حربياً جيداً بقدر ما كان مهرب أسلحة بارعاً أيضاً. وكان شغفه الأول ليس المرأة، ولا الملاكمة، ولا السلاح، بل البحر. واقتنى في الأربعينات، يختاً صغيراً وسمّاه سفينة. بيلار، اسمه العلم. وبهذه «السفينة» كان يخرج في بحر كوبا مترصداً الغواصات والبوارج، منفرداً مثل دون كيشوت أمام طواحينه. إلا أنه كان يبرق تلك المعلومات إلى حكومة بلاده في واشنطن، أو بالأحرى إلى سفارتها في هافانا.
بل ذهب إلى ما لم يذهب إليه سواه: تبرَّع بأن يؤلف شبكة للتجسس لحساب السفارة الأميركية في هافانا. وكان يعقد اجتماعاً لأعضائها كل أسبوع في مزرعته، يتداولون المعلومات المحصَّلة ويرفعونها إلى السفارة. غير أن السفير لم يكن يرى فيها أكثر من عمل هواة. بعد ستة عقود، يكشف كتاب مثير بعنوان «كاتب، بحّار، جندي، جاسوس»، أن شغفه الأول لم يكن النساء ولا الخمر ولا البحر، بل التجسس. ليس بمعنى العمالة والارتزاق، فلم يكن في حاجة إلى المال، وإنما بالمشاركة في العمل السياسي. وبسبب ذلك، اتصلت به المخابرات السوفياتية خلال الحرب الأهلية الإسبانية.
رأى فيه السوفيات حليفاً نموذجياً. ترجموا كتبه إلى الروسية. وحاولوا إغراءه بالانضواء في صفوفهم، لكنه امتنع، مفضلاً التعاون «المبدئي» على العمالة. وظلت الحرب الأهلية الإسبانية هاجسه وشغفه. وعندما نصحه السوفيات بالذهاب إلى الصين لتغطية الحرب البادئة هناك، رفض الفكرة تماماً، وفضل الذهاب إلى مزرعته في كوبا، من أجل متابعة الحرب على الفاشية الإسبانية من هناك. صنعت الحرب الإسبانية الجزء الأكبر من مجده الأدبي. والآن نعرف عندما نعيد قراءة «لمن تُقرع الأجراس» أن أصحاب الأسماء الروسية في الرواية كانوا أشخاصاً حقيقيين، مثلهم مثل معظم - وربما - جميع أبطاله.
كان اسمه آرنست هيمنغواي، أشهر كاتب أميركي في القرن الماضي. لم يتقن فقط كيف يصبح مراسلاً وروائياً، بل كيف يظل هو أيضاً الحدث في الحدث. هو الراوي، وهو البطل، وهو من يحرك شخصيات أبطاله. وقد لازمه طبع العنف إلى أن انتهى، في أكثر أشكال العنف قسوة: سحب بندقيته وأطلق النار في فمه.
ماذا كان أهم كتب هيمنغواي؟ «الشيخ والبحر»، الذي نال عليه نوبل. وهو رواية قصيرة مليئة بالعطف والحنان والشعور الإنساني.