هدى الحسيني
صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، عملت في صحف ومجلات منها: «الأنوار» في بيروت، و«النهار» العربي والدولي و«الوطن العربي» في باريس ، و«الحوادث» و«الصياد» في لندن . غطت حرب المجاهدين في افغانستان، والثورة الايرانية، والحرب الليبية - التشادية، وعملية الفالاشا في السودان وإثيوبيا، وحرب الخليج الاولى. حاورت الخميني والرئيس الأوغندي عيدي أمين.
TT

الانسحاب الأميركي يعيد روسيا إلى أفغانستان

عودة روسيا في الأشهر الأخيرة إلى لعب دور في أفغانستان، عبر الانفتاح على حركة «طالبان» سببه اعتقادها بأن الوجود العسكري الغربي بقيادة الولايات المتحدة في تلك البلاد لم تعد لديه فعالية مما يعرض المنطقة هناك إلى مواجهة تداعيات الانسحاب الأميركي المحتمل.
في منتصف الثمانينات كانت أفغانستان تعتبر «الجرح النازف» للاتحاد السوفياتي، وفي نهاية ذلك العقد شبهها الكثيرون بفيتنام روسيا التي انسحبت منها مهزومة.
الشهر الماضي استضافت موسكو مؤتمراً حول أفغانستان - الأول انعقد في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي - شاركت فيه إلى جانب روسيا إيران، الصين، الهند وأفغانستان. إنما لم تتم دعوة أميركا.
عودة النفوذ الروسي إلى أفغانستان يتماشى مع النمط الأوسع للسياسة الخارجية الروسية، حيث تسعى موسكو إلى التوسط باتفاقيات تسمح لها بالتوسع الجيوسياسي على حساب واشنطن. ومحاولاتها ترتيب اتفاق سلام أفغاني، تأمل من ورائه أن تحل محل الولايات المتحدة كقوة حامية لأفغانستان، وتطرح نفسها كوسيط أساسي في جنوب آسيا. هي تريد أن تستخدم هذا النفوذ لوقف امتداد الإرهاب إلى أراضيها ومنع وصول المخدرات إلى شعبها.
تطالب روسيا بأن تنسحب الولايات المتحدة من آسيا الوسطى، إنما تتخوف من أن يؤدي أي انسحاب متسرع إلى حالة من الفوضى في أفغانستان يمكن أن تشكل خطراً عليها وعلى الدول المجاورة.
يقلق موسكو أمران؛ أن تصبح أفغانستان غير المستقرة أرضاً خصبة للإرهاب العابر للحدود، ويعود الأفيون يتدفق منها إلى روسيا وآسيا الوسطى، وحسب تقارير الأمم المتحدة فإن في روسيا أعلى المعدلات في العالم من مستخدمي مادة الأفيون التي تؤدي إلى وفيات بالجرعات الزائدة وانتشار مرض نقص المناعة (الإيدز).
عام 2013 كانت موسكو تعتبر «طالبان» سبب هاتين المشكلتين، وعبرت عن تحفظها تجاه الجهود الأميركية لإجراء مفاوضات مع ممثلي «طالبان» في قطر. لكن منذ ذلك العام بدأ ممثلون عنها وعن «طالبان» يلتقون في طاجيكستان إلى جانب مبعوثين من عدة دول في آسيا الوسطى.
يقول دبلوماسي غربي: «يجب أن ننظر إلى عودة روسيا إلى أفغانستان ضمن سياق تدخلها المستمر في سوريا وطموحاتها الجيوسياسية في الشرق الأوسط الكبير. ثم إن دورها في سوريا جعلها هدفاً للمتطرفين الإسلاميين الذين أنشأوا خلايا في أفغانستان». يضيف: «ويبدو أن روسيا تهدف إلى استخدام التنافس بين (طالبان) وتنظيم داعش، كي تضمن ألا تتحول أفغانستان إلى ملاذ آخر لـ(داعش) يهدد موسكو».
خلال فترة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، أظهرت الولايات المتحدة رغبة في الانسحاب من الشرق الأوسط، وكان الأمر واضحاً برفض أوباما التدخل في سوريا، عندها سعت روسيا إلى ملء الفراغ، فعززت علاقاتها مع مصر، والعراق، وإيران وإسرائيل وإلى حد ما مع بعض الدول الخليجية، أما في جنوب آسيا، فقد عمقت علاقاتها مع باكستان مع احتفاظها بعلاقات جيدة مع الهند.
يقول محدثي إن «روسيا لن تصبح الراعي الخارجي الرئيسي لتلك الدول، وتحل محل الولايات المتحدة، لكن وجوداً أكبر لها في أفغانستان يسمح لموسكو بالتأثير على أي تطور في الدول التي كانت تشكل سابقاً الاتحاد السوفياتي».
في الشهر الأخير من العام الماضي قال السفير الروسي لدى أفغانستان زامير كابولوف إن ما يثير قلقنا هو أن «داعش» يهدد أفغانستان وكل دول آسيا الوسطى: باكستان، الصين، إيران، الهند وحتى روسيا. لدينا علاقات مع «طالبان» لضمان أمن مكاتبنا السياسية والقنصليات وأمن آسيا الوسطى.
وعلى عكسه تماماً، وفي شهر فبراير (شباط) الماضي قال أحمد مريد بارتاو، ممثل أفغانستان السابق، في القيادة المركزية الأميركية في مقال كتبه في مجلة «فورين بوليسي» تحت عنوان: «وهم الدولة الإسلامية في أفغانستان» إن «روسيا والصين وإيران تبالغ كثيراً، عند الحديث عن (داعش) في أفغانستان، وذلك للتدخل في شؤوننا الداخلية، وأيضاً لمواجهة تزايد النفوذ الأميركي في المنطقة».
تدرك موسكو وبكل تأكيد أن التدخل الدولي بقيادة أميركا لم ينجح في وضع أفغانستان على مسار الاستقرار والتقدم، وكان السفير الروسي كابولوف وصف مبلغ تريليون دولار الذي أنفقته أميركا خلال السنوات الـ15 الماضية، بأنه راح سدى. ووصف استمرار الوجود الأميركي (آلاف الجنود واتفاقية أمنية ثنائية وقعت أخيراً مع كابل) بأنه يعكس رغبة أميركية طويلة المدى، للحفاظ على موطئ قدم في وسط أوراسيا، بعدما فقدت عام 1979 نظاماً إيرانياً كان موالياً لها، وبعدما تم طرد القوات الأميركية من آسيا الوسطى.
ترى موسكو أن «طالبان» أقل تهديداً لمصالحها على المدى الطويل، وأفضل من أفغانستان ملأى بالفوضى، خصوصاً مع حكومة في كابل موالية للأميركيين وقوات أميركية متمركزة في كل البلاد. وتقول موسكو، إن حركة «طالبان»، حيث غالبيتها من البشتون، أثبتت مرونة ملحوظة خلال العقدين الماضيين، تختلف عن تلك الجماعات المتطرفة العابرة للحدود مثل «داعش»، و«القاعدة»، التي تستهدف روسيا والغرب، وتتهمهم بأنهم أعداء الإسلام. لا تغفل موسكو الفروع المتفرعة من «طالبان» مثل شبكة حقاني، لكنها ترى أنه حان الوقت لاستيعاب «طالبان» في إطار سياسي أفغاني جديد! طالبان تتجاوب مع موسكو التي تريد وضع حد للوجود العسكري الأميركي في أفغانستان، وبدأت تكشف عن رغباتها، إذ صرح سيد محمد أكبر آغا، قائد سابق في «طالبان» ويعيش في كابل ويتبنى الحكم الإسلامي في أفغانستان، بأن «طالبان» تريد علاقات أوثق مع موسكو لتخليص أفغانستان من آفة الولايات المتحدة. وأضاف في مقابلة مع جريدة «موسكو تايمز» في 13 من الشهر الماضي: «نحن مستعدون لمصافحة روسيا من أجل تخليص أنفسنا من ويلات أميركا، وقد أثبت التاريخ أننا أقرب إلى روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، منا إلى الغرب».
لا حكومة أفغانستان الشرعية، ولا واشنطن استطاعتنا اقتلاع «طالبان» أو تحقيق الاستقرار، لذلك جاءت حسابات موسكو بأن أفضل طريقة لحماية حدودها وحدود حلفائها في آسيا الوسطى من مخاطر تسرب الإرهابيين، هو تعزيز طروحات «طالبان» في السعي إلى إطار سياسي جديد، وتعتقد أن مساعدة مالية وعسكرية قد تحفز «طالبان» على مواجهة التهديد الحقيقي، أي المتطرفين العابرين للحدود، وبرأيها أنه إذا عززت «طالبان» نفوذها على حساب الحكومة الأفغانية، وأدى ذلك إلى انسحاب القوات الأميركية، فسيكون ذلك أفضل لروسيا.
من الواضح أن لروسيا و«طالبان» اهتمامات مشتركة في مواجهة «داعش» في أفغانستان والوجود العسكري الأميركي. تشاركهما هذا التفكير إيران والصين في وقت تستمر القوات النظامية الأفغانية في مواجهة إرهاب «طالبان» التي زادت هجماتها الإرهابية في مختلف المناطق وكان من بينها الهجوم الذي أدى إلى مقتل سفير دولة الإمارات العربية المتحدة إلى أفغانستان وحاكم إقليم قندهار.
اللافت الآن على الساحة الأفغانية المتحركة باستمرار، بروز أدلة متزايدة على أن قوات برية صينية تعمل داخل أفغانستان وتقوم بدوريات مشتركة مع القوات الأفغانية على امتداد 50 ميلاً من الحدود المشتركة بين البلدين بهدف اصطياد مقاتلي «الإيغور» العائدين من معارك الموصل والرقة، كما تغذي التكهنات بأن بكين تستعد للعب دور أكبر في تثبيت الأمن في أفغانستان «عندما تغادر الولايات المتحدة والحلف الأطلسي تلك البلاد». الحجم الكامل والبعيد لمشاركة الصين في دور أفغاني، غير واضح حتى الآن، ثم إن وزارة الدفاع الأميركية ترفض مناقشة هذا التطور، إذ قال متحدث باسمها يوم الاثنين الماضي: «نعرف أن القوات الصينية موجودة هناك»!
أما «طالبان»، فحسب محلل سياسي، فإنها ليست مهتمة بالسلام والأمن، هي تريد أن تربح الحرب في أفغانستان، وتستغل المفاوضات مع القوى الإقليمية والدولية لتحسين وضعها، لذلك من المستبعد جداً أن تتخلى عن أنشطتها الإرهابية، وهذا يعني أن موسكو لن تكون قادرة على تحقيق مصالحة بين كابل و«طالبان». وعلاوة على ذلك، فإن ذكرى الغزو السوفياتي لا تزال حية في ذهن كل أفغاني، ومن المستبعد أن تتاح فرصة كبيرة أمام روسيا للنجاح، طالما احتفظت الولايات المتحدة بقوات عسكرية في أفغانستان!