د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

عجز الكرامة

حينما بدأت أحداث يناير (كانون الثاني) 2011 في مصر التي جرت تسميتها فيما بعد غربيًا باسم «الربيع العربي»، شاع هتاف بين المتجمهرين في ميدان التحرير بالقاهرة: «عيش، حرية، كرامة إنسانية». كان إدخال «الكرامة» إلى عالم الشعارات «الثورية» جديدًا بدرجة ما، ولكن المعنى المقصود به كان إما أنه للاحتجاج على سلوكيات الشرطة إزاء المواطنين، أو للتأكيد على تدهور الأحوال المعيشية، مما دعا فيما بعد لإحلال «العدالة الاجتماعية» محل «الكرامة الإنسانية» في الشعار، أو الجمع بين البعدين معًا. في كل الأحوال، فإن مفهوم الكرامة سواء في بعده النفسي أو في بعده الموضوعي بات قضية مهمة لا يمكن تجاهلها من قبل علماء السياسة أو الاجتماع عندما يتأملون فيما جرى في بلادنا خلال السنوات القليلة الماضية التي من المرجح أن تبقى معنا آثارها، وجروحها، خلال المرحلة المقبلة، سواءً أصاب البلاء الثوري بلدًا أو نجا منه بلد آخر.
ورغم أن قضية «الكرامة» بدت أحيانًا كما لو كانت قضية تخص البلدان العربية أو حتى الدول النامية عامة، فإنه من المدهش أن العدد الأخير من دورية «الشؤون الخارجية» مارس (آذار)/ أبريل (نيسان) 2017 طرح مقالاً مهمًا كتبه آرثر بروكس (رئيس معهد إنتربرايز الأميركي) تحت عنوان «عجز الكرامة: استرجاع حس الأميركيين بالهدف». الموضوع هو الكيفية التي تعامل بها الأميركيون مع قضية الكرامة الإنسانية، ليس من البعد المتعلق بالإهانة المقبلة من السلطات العامة، وإنما من الزاوية الموضوعية المتعلقة بالبعد الاقتصادي أو مقاومة الفقر الذي يبدو كأنه المصدر الرئيسي للحط من الكرامة لدى الإنسان. وهكذا فإن قصة بروكس تبدأ من تلك النقطة التي بدأ فيها الرئيس ليندون جونسون حربه ضد الفقر في أميركا، وبالتحديد عندما زار في 24 أبريل 1964 مدينة إينز الصغيرة بولاية كنتاكي، باعتبارها رمزًا للتدهور الاقتصادي الذي طرأ على مدن المناجم عمومًا وأدى إلى حالات من الفقر الحاد التي دفعت الحكومة الأميركية إلى إعلان الحرب ضد الفقر. وقال جونسون إن «هدفنا هو النصر الكامل».
الحرب ضد الفقر الأميركي في الحقيقة لم تكن قليلة التكاليف، بل إنها فاقت تكاليف حرب فيتنام على سبيل المثال وغيرها من الحروب. فعلى مدى العقود الخمسة التالية لإعلان الحرب، أنفقت الحكومة الفيدرالية وفقًا لما أورده بروكس 20 تريليون دولار لتحقيق حلم جونسون من خلال برامج الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي وكوبونات الغذاء والعون ضد البطالة، والمساعدة للأسر التي تعول أطفالاً. وكان الحصاد في النهاية أنه رغم أن الفقر أصبح من الناحية المادية أقل بؤسًا، فإنه لم يكن أقل انتشارًا. فصفوف البطالة لم تقل بشكل ملحوظ، وانتهى الأمر إلى أن من يحصلون على الضمان الاجتماعي أكثر ممن يعملون، وبات من كان لديهم عجز في السعرات الحرارية يعانون أمراض السمنة المفرطة. الحصيلة الكلية كانت وفقًا للأرقام القومية الأميركية في عام 1966 عندما أصبحت الحرب ضد الفقر شاملة وكاملة في الولايات المتحدة فإن نسبة الفقر كانت 14.7 في المائة من الأميركيين، وفي عام 2014 بعد خمسة عقود تقريبًا أصبحت النسبة 8.14 في المائة، مثل ذلك لا يمكن وصفه إلا بأنه كان نوعًا من إدارة الفقر، وإبقاء للفقر على ما هو عليه وبتكلفة عالية للمجتمع بأغنيائه وفقرائه معًا.
من الصحيح أن بروكس المؤلف مع معهده «الإنتربرايز» ينتمي إلى اليمين الأميركي، ولكن وصفه هكذا لا ينبغي له دفعنا إلى تجاهل ما يثيره من قضية هامة تتعلق بالكرامة باعتبارها حجر الزاوية لتنمية المجتمعات. فإذا كانت «الكرامة الإنسانية» تعني أن يكون الإنسان مستحقًا للاحترام، فإن البرامج الأميركية المعتبرة في الحرب ضد الفقر لم تؤدِ إلى هذه النتيجة. والسبب أن الصفوف تضخمت ليس فقط في الحاصلين على المعونات الاجتماعية، وإنما أيضًا في الذين لا يعملون أو يبحثون عن عمل والذين أصبحوا الآن ثلاثة أمثال ما كانوا عليه في عام 1965 أو من 3.3 في المائة إلى 11.6 في المائة من قوة العمل، وفيهم ضعف الذين لن يحصلوا على تعليم المرحلة الثانوية، وثلثان منهم لم يتزوجوا، ولم يعرف عنهم الاندراج في أي من الأنشطة الاجتماعية الدينية أو المدنية، والأرجح أنهم يعيشون في عزلة وكسل ويتناولون المخدرات وتشيع بينهم ظاهرة الانتحار. وبينما كان العمر المتوقع عند الميلاد يرتفع في الدول المتقدمة عامة، فإنه اعتبارًا من عام 1999 أخذ في الانخفاض في الولايات المتحدة بين الأميركيين البيض من الطبقة العاملة الذين لم يحصلوا على تعليم جامعي. وكان السبب الرئيسي لارتفاع نسبة الوفيات راجعًا إلى إدمان الكحوليات المسببة لأمراض الكبد والبنكرياس بنسبة 46 في المائة، أما المخدرات فزادت نسبة وفياتها إلى 323 في المائة مقارنة بالانتحار 78 في المائة.
من الناحية العملية فإن بروكس يضع أمامنا اقتراحين؛ أولهما يتعلق بتعريف البطالة الشائع، وهو أن هؤلاء الأشخاص في سن العمل، ولكنهم لا يعملون ولا يبحثون عن عمل. وفي الولايات المتحدة، فإن نسبة البطالة حاليًا هي 4.7 في المائة ممن هم في سن العمل ويبحثون عن العمل، ولكن إضافة هؤلاء الذين في سن العمل، ولكنهم لا يبحثون عن العمل أصلاً، ليس بسبب الإرث الذي حصلوا عليه، وإنما لأنهم خرجوا أصلاً من السوق الاجتماعية للعمل، فكل ذلك يرفع هذه النسبة. ففي عام 2000 كانت هذه النسبة 23 في المائة، والآن 2017 أصبحت 27 في المائة، وثانيهما أن العمل الذي يحقق الاحترام الواجب للإنسان هو الذي في النهاية يحقق الكرامة الإنسانية، ويعيد الإنسان إلى الساحة الاجتماعية مرة أخرى. مثل هذا التطور لا يحقق نتائج اقتصادية سلبية واجتماعية خطيرة فقط، وإنما له تأثيراته الكبرى على الساحة السياسية. فلم تكن هناك صدفة أن دونالد ترمب حقق تفوقه الساحق على هيلاري كلينتون من خلال هذه الفئة من طبقة غير العاملين، وفي المناطق التي توجد فيها معدلات عالية من تناول المخدرات وإدمان الكحوليات والانتحار.
مقال آرثر بروكس يلقي الضوء على أمور أخرى تخص «عجز الكرامة»، ورغم أن للمقال نكهة أميركية يمينية واضحة، فإن فائدته للبلدان العربية ليست قليلة. فالفوضى التي اجتاحت عددًا من البلدان العربية كان «عجز الكرامة» جزءًا منها، وأكثر من ذلك أن قضية البطالة، أو فقدان الاحترام يبرز بشدة، ليس فقط بين هؤلاء الذين لا يعملون أو لا يبحثون عن عمل، بل بين العاملين الذين لا يقومون بعمل حقيقي في وظائف حكومية غير منتجة والمعروفة مجازًا باسم «البطالة المقنعة». هذا النوع من البطالة ربما لا ينتج الأمراض الاجتماعية نفسها الشائعة في الولايات المتحدة، وإنما يفرز أمراضًا اجتماعية أخرى تظهر في معدلات طلاق مرتفعة، والتطرف الديني، والنزعة إلى تصديق الخرافات والبدع، وفي أحيان التجاوب مع تيارات متطرفة. «عجز الكرامة» بمعنى عدم ممارسة العمل المنتج في بلادنا قد يتطلب الدراسة والبحث والفحص العميق.