لو قيل إن نسبة إصلاح وتأهيل المنحرفين فكريا لا تتجاوز 5 في المائة منهم لقلنا إن الموضوع يستحق كل ريال يذهب لهذا العمل. أن تعيد شابا ضالا إلى الطريق الصحيح هو عمل إنساني بالدرجة الأولى، قبل أن يكون أمنيا، ولا يبتعد عن تفسير الآية الكريمة «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا».
في عام 2006 أنشأت وزارة الداخلية السعودية مركزا للمناصحة والرعاية والتأهيل، موجّها لمن تأثروا بالفكر الإرهابي أو تورطوا بدرجة يمكن معها استعادتهم. الفكرة فريدة من نوعها لأسباب من أهمها أن الدولة تتعامل فيه باللين والمفاهمة مع أعدائها! لكنهم أعداؤها وأبناؤها في الوقت نفسه، مما يجعلها تؤثر مصلحتهم على الاقتصاص لنفسها منهم. الدولة هنا تتعامل مع المشبوهين أو المتورطين في الفكر المتشدد تعامل الوالدين مع ابنهما الضال، بداية من الاحتواء، مرورا بالصبر وعقد الآمال، وحتى رجاء النتيجة.
«مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة والرعاية» عمل كبير وغير مسبوق. وحتى نكون منصفين فلم تكن بدايته كما نراه اليوم، بحسب ما كشفه للإعلام بعض المستفيدين منه، فقد كان في شهوره الأولى يستهدف تخطئة المتناصح، ويركز على إظهار فداحة سلوكه، لكنه اليوم تطور إلى عمل مؤسسي بمعايير التأهيل العالمية التي تتضمن الاحتواء والنقاش الحلقي المفتوح أو الفردي، في القضايا الخلافية التي تبني عليها التنظيمات الإرهابية منهجها، كالولاء والبراء والحاكمية ووسيلة تغيير المنكر. وضم مع ذلك وسائل علاجية مساندة كالرياضة والفن التشكيلي والأنشطة الثقافية، وإشغال المستفيد بما ينفعه من جهة التدريب المهني والتعليم. والأهم أن جزءا من المركز يعمل وقائيا، أي يناصح الأسر والأفراد الذين يحومون حول دائرة الإرهاب قبل أن يقعوا فيها، كالشباب الصغار الذين غرر بهم للسفر إلى سوريا وعادوا محملين بتجربة قاسية ودرس لا ينسى. أيضا يقدم المركز خدماته للأسرة من داخل منزلها من دون الحاجة لتوقيف أي فرد داخل المركز، وبعض من خدماته يقدم إلكترونيا.
واللافت أن المركز لم يغفل المناصحة النسائية كذلك، أي تقديم التوجيه والإرشاد إلى المرأة التي تأثرت بالفكر المتطرف أو أوشكت على التورط فيه، وهو ما يعني أن هذا العمل يستهدف الإصلاح الأسري.
في المجتمع السعودي، المكون الرئيس ليس الفرد بل الأسرة. الابن حين يتزوج تتزوج كل الأسرة معه، وحين ينجب تدخل أسرته معه في مسؤوليته كمرب، وحين يتفوق أو ينجح في عمله تشاركه أسرته كل التفاصيل. لذلك حينما يبتلى الفرد بمرض التشدد الفكري ويتورط في موضوع أمني، تنهار الأسرة بكاملها من حوله، تتألم له وربما تتعاطف. وهذا ما يفسر لجوء أولياء الأمور لمركز المناصحة لطلب عونه في مناصحة أبنائهم.
هو همّ جماعي، تتوحد فيه حاجة الأسرة والدولة إلى إعادة تقويم الانحراف الذي يصيب أبناءها.
وللمركز أفرع تزداد انتشارا في مناطق كثيرة من المملكة، وهو مكلف ماليا، سواء من ناحية احتواء مبانيه على الملاعب والمعامل والورش والقاعات الدراسية، أو تكاليف تشغيله ومرتبات كوادره المؤهلة في الدين وعلم الاجتماع وعلم النفس والتربية، ومدربين ومدرسين في تخصصات علمية مختلفة تعمل فيه، أو الأموال المقدمة للمتخرجين لمساندتهم في بدء حياتهم من جديد. هذه التكلفة تتجاوز بكثير تكلفة بناء السجون التي كان من الممكن أن تبنيها الدولة وتزج بالمشبوهين والمتورطين فيها. كان من الممكن لوزارة الداخلية أن تبني سجنا كبيرا في جزيرة نائية وترمي بهم فيه تطبيقا للقانون الذي أدانهم، لكن الاختيار وقع على الإصلاح، على بناء الإنسان، وعقد صلح بينه وبين نفسه، وبينه وبين المجتمع.
حتى المتشائمون الذين يعتبون على الدولة أن تناصح أفرادا عادوا وانضموا إلى تنظيم القاعدة، بعد أن تخرجوا في مركز المناصحة، هم لم يلامسوا الواقع الاجتماعي، لم يخوضوا تجربة فساد أبنائهم أو إخوتهم، لم يدخلوا هذه الدوامة لأنهم ينظّرون من أبراجهم. نجاح الدولة في استعادة إنسان في زهرة شبابه من براثن الضلال الفكري وهدايته إلى نفسه وحياته وأسرته لا يضاهيه نجاح. الإحصائيات تقول إن المرتدين إلى الفكر الإرهابي بعد المناصحة لا تتجاوز نسبتهم عشرة في المائة، وهذه بشرى وليست دافعا للتشاؤم. ماذا لو لم تكن هناك مناصحة للشباب؟ كم كانت ستصبح الخسائر الاجتماعية والآلام النفسية والضريبة الأمنية؟
مركز المناصحة لا يقدم النصيحة فحسب، بل يقدم فرصة ثمينة لاستعادة الحياة، للتعليم والعمل والاندماج من جديد في المجتمع. هو مثل المشفى، يقدم رعاية صحية، لكنه لا يضمن حياة المرضى، إنما من دونه ستحاصرنا الأوبئة ونشعر بالتهديد على حياتنا حتى من أقرب قريب أو أعز صديق.
8:9 دقيقه
TT
مناصحة وتأهيل
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة
