موت «الإنسان المعاصر» عند طه عبد الرحمن

في نقد نظرية التعاقد الاجتماعي

موت «الإنسان المعاصر» عند طه عبد الرحمن
TT

موت «الإنسان المعاصر» عند طه عبد الرحمن

موت «الإنسان المعاصر» عند طه عبد الرحمن

عرفت أوروبا منذ القرن السابع عشر نقلة نوعية في التفكير على جميع الأصعدة، حيث حدث انقلاب هائل في الرؤية للعالم. وعلى الصعيد السياسي، ظهرت نظرية ثورية سميت بـ«التعاقد الاجتماعي»، بدأها بقوة مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة، الإنجليزي توماس هوبز، بكتابه «الليفيتان» الذي وضع فيه اللمسات الأولى والمبادئ المؤسسة لهذه النظرية، معلنًا بداية إمكانية تحمل الشعب لمسؤولياته، وتدبير مصالحه بيده، من دون أن يترك الأمور تنفلت من قبضته.
وركز هوبز على أن العمل السياسي مطالب بضمان أقدس حق، وهو حق البقاء. هذا العمل النظري الافتتاحي سيعمل الفيلسوف جون لوك على إتمامه وترميمه، بالتركيز على حق الملكية، مما سيدشن الانطلاقة الفعلية نحو مجتمع ليبرالي لا يزال صداه مسموعًا في زماننا.
وليتوج التنظير السياسي الحديث مع جان جاك روسو، بكتابه «العقد الاجتماعي» الذي أعلن السيادة للشعب، بوضوح كامل، قائلاً عبارته الشهيرة: «من يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد».

هذه النظرية التعاقدية التي يترابط فيها الناس فيما بينهم بعقود اختيارية تضمن لهم المصالح المشتركة، وتجعل شأنهم العام من اختصاصهم هم فقط، أي إعلان أن الإنسان سيد نفسه، ومدبر أمره، وسيد تشريعه، ومعنف نفسه، والشاهد الوحيد على سلوكياته، والمدرك لما يفيده، ستسود وتطغى في كل أصقاع العالم، مشكلة الأفق الذهني لزماننا. وقد أصبحت تلك القيم والمبادئ وكأنها المسلمة الوحيدة الممكنة لبني البشر، وهو ما دفع الفيلسوف طه عبد الرحمن إلى نقدها، معلنًا أنها نظرية فاشلة، بل «خائنة»، وجب تجاوزها نحو ما يسميه الميثاق الائتماني، فالتعاقد الاجتماعي كنظرية، بحسب ما يراه، قد تآكل، واستنفد إمكاناته. فماذا يقصد طه عبد الرحمن بالميثاق الائتماني؟ وما مبررات دعوته؟
كي نلقي نظرة على موقف طه عبد الرحمن، سنعتمد المدخل العام لكتابه الجديد، الصادر أخيرًا عن المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بعنوان «دين الحياء»، الجزء الأول.
* موت الإنسان المعاصر
عندما نسمع بفكرة موت الإنسان المعاصر عند طه عبد الرحمن، نتذكر مباشرة الفكرة نفسها عند الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، فهو من أعلنها أولاً، لكن ليس بالمعنى نفسه. ولئن عنى فوكو بالفكرة أن مواصفات الإنسان الحديث، باعتباره حرًا وفاعلاً وصانعًا لمصيره وتاريخه، هي مجرد أوهام، فالإنسان على عكس ذلك مسحوق بقوى وبنيات معتمة تتحكم فيه، سواء أكانت بنيات تاريخية أو اقتصادية أو لغوية أو نفسية أو اجتماعية أو معرفية. فادعاء أن الإنسان هو الفاعل الأول والأخير، هو من وجهة نظر فوكو أمر مزيف. فهو في حقيقته مفعول به؛ إنه باختصار مجرد كائن ميت. لكن موت الإنسان المعاصر عند طه عبد الرحمن قد أخذ اتجاهًا مختلفًا تمامًا.
ينطلق طه عبد الرحمن بداية من إعلان أن الإنسان المعاصر لم يعد يعني سوى الإنسان الغربي، باعتباره النموذج والمثال المجرد الذي تسير البشرية على خطاه. فكل فرد، وفي أي رقعة جغرافية، وأيًا كانت ثقافته، يحمل في صدره «مثال الإنسان المعاصر»، بل يعمل على تجسيده سلوكًا في حياته. وما ساعد على انتشار هذا الطراز من الإنسان ثورة الإعلام والاتصال التي كرسته كأفق ونموذج وحيد موجه للنظر والعمل.
بعد هذا التوضيح، يتساءل طه عبد الرحمن عن أهم سمة تميز هذا المثال من الإنسان الغربي؟ ويجيب مباشرة، وبلا تردد، إنه إنسان ضد «الفطرة»، وهي بؤرة القيم الأخلاقية التي لن تكون إلا ذات جذور دينية، بحسب عبد الرحمن. ومن ضاعت فطرته النابعة من الدين، فقد «مات قلبه». لهذا، فعصرنا لا يقدم لنا في الحقيقة سوى نموذج الإنسان الميت لأنه ضيع الدين، وفصله عن كل قطاعات الحياة. ومن ثم، أصبحت تصوراته وسلوكياته بلا سند من الفطرة ونور القلب. إذن، موت الإنسان عند طه هو موت القلب وضياع الفطرة ذات الأصل الديني، وليس الموت بمعنى ضياع الفاعلية والقدرة على الفعل الحر، كما روج لذلك ميشال فوكو.
ويستمر طه عبد الرحمن في أطروحته، ليعلن أن المسلم ليس بمعزل عن هذا النموذج من الإنسان الغربي، فهو يدور في فلكه، بل يستدمجه ويستبطنه في كيانه، مثله مثل بقية البشر في زماننا هذا، مما يجعل منه بدوره إنسانًا مهددًا بشبح «الإنسان الميت». وكيف لا، وهو يستهلك منتجات ثورة الإعلام والاتصال، بل إنه من المساهمين برأسماله في الترويج لهذه المنتجات؟ باختصار، يقول طه عبد الرحمن: «إن أفراد الإنسانية أصبحوا عن بكرة أبيهم يدورون في فلك الموت».
إن هذا الإنسان المعاصر، المشكل للمثال الخلقي والذهني للعالم، سيوجه له طه عبد الرحمن نقدًا قويًا، خصوصًا لأهم الأسس النظرية التي يبني من خلالها كيانه. وهي أسس تتمثل في نظرية التعاقد الاجتماعي، حيث سيعمل على إيجاد بديل لها لإحياء الإنسان بعد موته. فما حجج طه في رفضه هذا؟
يريد طه عبد الرحمن قلب نظرية التعاقد الاجتماعي التي جاء بها «الإنسان المعاصر» رأسًا على عقب، ليعوضها بنظرية أخرى يسميها «النظرية الميثاقية»، لكن هذه المرة ليس بتعاقد بين الإنسان والإنسان، بل بين الله والإنسان. فإذا كانت نظرية التعاقد تدعي أن الحالة الأولى للبشرية تجري في هذه الحياة المرئية، أي بتعبير طه عبد الرحمن: في العالم الملكي، حيث الاتفاق يجري بين الأجسام، فقد سبقتها مواثقة أخرى جرت في عالم الملكوت، حيث كان الإنسان يتصرف بروحه لا بجسده، وهي المرحلة الأصل التي نسيها الإنسان، بل قام بخيانتها.
إن المواثقة التي يتحدث عنها طه عبد الرحمن كانت في حالتها الأولى روحية، وليست اجتماعية. وكانت منقسمة إلى عهدين نكث بهما الإنسان نفسه، وهما: ميثاق الإشهاد، حيث أقر فيه الإنسان بربوبية الخالق، وميثاق الائتمان الذي فيه إعلان تحمل الأمانة.
إن ما تسمى الحالة المدنية في نظرية التعاقد الاجتماعي هي حالة سلم وحقوق يجب السعي للدخول فيها، إلا أنها ليست كذلك، بحسب طه عبد الرحمن. بل هي حالة ممات ينبغي الخروج منها، والعودة إلى الحالة الملكوتية الأولى. وفقط نذكر أن المقصود بالموت هنا هو الموت القلبي، فحين يكون الإنسان مارقًا عن الدين، تضيع فطرته وأخلاقه، مما يساهم في قتل القلب، فيصبح المرء في عداد الموتى، وعملية الإحياء لن تحصل، بحسب طه، إلا بتجديد الميثاق الأصلي مع الله.
إن التعاقد الاجتماعي بحسب رواده هو وسيلة للخروج من وضع التدني، أو «التسفل» بتعبير طه عبد الرحمن، أي الانتقال من التوحش نحو التمدن. أما النظرية الميثاقية، فهي ترى أن التسفل والتوحش ناتجان عن خيانة الميثاق الأول الذي لم يكن في عالم الملك (العالم المرئي)، بل في عالم الملكوت (العالم الغيبي) الذي لا حل إلا بالرجوع إليه، والعيش في كنفه. بعبارة أخرى: إذا كانت مشكلة التعاقد الاجتماعي هي: كيف يمكن الخروج من التوحش نحو التحضر؟ فإن المشكلة في النظرية الميثاقية قد اختلفت، وأصبحت: هل وفى الإنسان بالميثاق الأول أم لا؟ إذا وفى، فإنه يكون قد حظي بوجود ملكوتي، وإذا لم يوف، فقد انغمس في وجود ملكي فقط. بهذا يقيم طه عبد الرحمن قلبًا جذريًا للأمور، بحيث يجعل من ما يسمى الحالة المدنية حالة موت وخيانة، في مقابل الحالة الأصل، أي اللحظة الملكوتية التي وحدها تستحق أن توصف بحالة الحياة.
وفي سعيه إلى «نسف» النظرية التعاقدية، يضيف طه عبد الرحمن أنها وإن كانت تضع في برنامجها تنظيم وضبط الملكية التي هي أس البلاء، فإن النظرية الميثاقية تبقى الشفاء التام منها، فهي تعمل على اجتثاث الملكية من جذورها، بحيث لا يبقى أي مسوغ يكون من أجله سفك الدم ممكنًا.
وقبل أن يختم طه عبد الرحمن مدخله في كتابه الجديد (دين الحياء) المذكور أعلاه، يذكر بأن الخروج من الخيانة إلى حالة الائتمان لن يكون كما تدعي نظرية التعاقد الاجتماعي، بواسطة «إرادة الجميع»، أو «معرفة الجميع»، أو «تجريد الجميع». بل إن هذا الخروج يجب أن يتم بواسطة إنارة «أهل العلم»، فهم من سيذكرون الناس بالتزاماتهم الروحية، ويدلونهم إلى تجديد المواثقة لربهم، حتى تعود الحياة إلى قلوبهم التي ماتت. وهنا لربما المعضلة التي يضعنا فيها طه عبد الرحمن، فما الدليل على أن من يسمون «أهل العلم» سيحسنون ربط البشر بربهم؟ وهل علاقة الشيخ بالمريد هذه تسلم من الهيمنة والسيطرة؟ ألا يمكن أن تنقلب الأمور، فتصبح إرادة التحرر روحيًا قيدًا في حد ذاته؟ وهل مسألة الروح التي يعول عليها طه لتحرير الإنسان المعاصر هي مشترك كوني أم هي خصيصة لبعض الناس؟ بعبارة أخرى: أليس الأجدر بطه عبد الرحمن أن يعلن أن «الروح هي أعدل قسمة بين البشر»، وألا يتركها في يد البعض على حساب البعض الآخر، تحت دعوى أنهم الأقدر على نقلها. أي أليس الأجدر بنا إعلان تعميم الروح على غرار تعميم العقل في الزمن الحديث، ومن ثم لا حاجة لمن أسماهم طه عبد الرحمن بـ«أهل العلم».
عموما، نقول إن أطروحة طه عبد الرحمن لا تزال بكرًا، تحتاج منا الابتعاد عن الاحتفال بها، وتوجيهها نحو نقاش علمي يبرز مكامن قوتها وضعفها أيضًا، على أساس أن النظرية التي لا تكذب ليست نظرية أصلاً.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.