سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الرجل والظل

طقس باريسي بارد، ولا مفاجآت. الشتاء هنا، منذ شهرين، يدفع بأهل المدينة إلى منازلهم. باعة الكتب أغلقوا صناديقهم الحديدية الخضراء، ومضوا يختبئون مثل طيور الفصل، يجمعون كتبهم من المطر اللجوج. وكشك الصحف على يمين «الدوماغو» أغلق باكرًا هذا المساء. لقد أصبح صاحبه يعرف عادات الزبائن وطباعهم.
وأنا في المقهى أكاد أكون وحيدًا لولا بضعة يابانيين لا يريدون أن يضيعوا إجازتهم في الخوف من المطر ودرجات 7والصقيع. وفجأة خُيّل إلى أنني لمحته من خلف الزجاج يعبر الرصيف مسرعًا، لا يلفته أي فضول. تحت إبطه كتاب ونسخة مبللة من «الموند». ما باله تأخر في شرائها اليوم؟ فمن عادته أن يهفَّ إليها لحظة الصدور، الثانية بعد الظهر. فرنك و80 سنتيمًا. نصف ليرة لبنانية. ولا أشك لحظة إلى أين يمضي من هنا. إلى مقهى «السان ميشال»، حيث سعر القهوة أقل بكثير، وحق الجلوس أرحب أيضًا.
حق منحه ماريوس، كبير الخدم، الأبيض الشعر مثل جان غابان، والطيب مثل أفلام فرنانديل. وعند الحاجة يؤجل ماريوس موعد الاستحقاق إلى اليوم التالي. أو الأسبوع التالي. ضاحكًا أبدًا مثل فرنانديل، ولكن بوقار جان غابان. كأنه لا يخرج من الشاشة.
وبعد مقهى «السان ميشال»، إلى أين من هناك؟ إلى غرفة صغيرة في شارع «غاي لوساك». من هم في السابعة والعشرين قادرون على تحمل هذا النوع من الفنادق، وهذا الحجم من غرفها. سوف يقرأ قليلاً، ويكتب قليلاً، ويحلم قليلاً لأنه لا يحب أحلام النوم: معقدة ومتداخلة ومليئة بغرباء لا يعرفهم ولا يعرف كيف ومن أين يدلفون إلى أحلامه. لذلك، يفضل أحلام اليقظة، رغم شرودها.
للحظة، خُيل إلي أنه سوف يلتفت نحو «الدوماغو» ويدخل لقراءة «الموند» هنا. وقد يوفّر على نفسه بعض البلل في هذا المساء المنقوع بزلال الغيم. بل أكثر من ذلك. كنت سأعرض عليه فنجانًا من القهوة وعشاءً من النوع الذي يحبه، سلطة اللوبياء النيئة مع الزيتون. الكثير منه. وكنت سأقرضه، أنا، ثمن عشاء من الجبنة والخبز. ما لك ولماريوس. لكنه مضى مسرعًا كأنما المطر يتساقط في مكان آخر. وأصبحت الدنيا مثل حلم متداخل. رجل في السبعينات يتأمل نفسه في العشرينات. واحد خائف من البرد في دفء «الدوماغو»، والآخر لا يهمه سوى أن يحمي كتابه وصحيفته. والذي لا يملك ثمن القهوة في «الدوماغو» أكثر سعادة من الذي يملكها. على ما أعتقد. أو أن الأمر سيان: الرجل نفسه داخل الزجاج وخارجه. والمطر يزيد الذكريات كآبة.