سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

2016: دهش.. يدهش

غيابان للتاريخ، وليس فقط للسنة الزائلة: باراك أوباما، أول رئيس أسمر في الولايات المتحدة، وفيدل كاسترو، أول رئيس شيوعي في الأميركتين، الجنوبية والشمالية ومعهما الوسطى. كلاهما كان متوقعًا، الأول بسبب الدستور المدني، الثاني بسبب الدستور الأعلى. الأول سجّل سابقته الكبرى عبر مسار ديمقراطي لم يكن في الماضي يعترف ببشرته، الثاني سجّلها بالقوة في قارة اشتهرت بالديكتاتوريات والتخلّف، وتناوب العسكريين على الانقلابات والبلاغ الأول. كلاهما صنع التاريخ على طريقته. أوباما بالامتناع عن صناعته، وكاسترو بالإصرار على صناعته بالقوة. أوباما اعتبر التاريخ خطوطًا حمراء، وكاسترو اعتبره منصات إعدام حمراء، ترسل إليها «الوجبات» كل فجر. و«الوجبة» في وصف الجثث المعلقة، مصطلح تكنولوجي استخدم أولاً في العراق، عندما كانت الدولة تدعو المتنزهين إلى التمتع بالحدائق وسط زينة إضافية: جثث الخونة المعدومين ذلك الصباح.
جاء أوباما إلى الرئاسة من مكان بعيد. وقطع المسافة بسرعة الأرانب وكدّ السلحفاة. هارفارد، فمجلس الشيوخ، فالبيت الأبيض. المشكلة أنه اعتبر أن المسألة انتهت هناك. كان مهمًا أن يصل، فوصل. وآمن كاسترو بأن الوصول يعني البقاء، فحاكَ بلدًا على قياسه، لا منافسين فيه. لكن مثل جميع دول القياس الشخصي والخياط إلى التفصيل، فإن كوبا الكاستروية قد تنهار مع غياب راؤول كاسترو، «العملي» الذي صافح أوباما وفاوضه واستضافه في هافانا، بينما فيدل يتفرج عن مسافة مائة متر، ويعترض على الـ«فيسبوك». غاب فيدل وهو يهاجم العدو الأميركي، ويغادر أوباما فرِحًا بأنه الذي أعاد فتح أبواب كوبا.
يمر التاريخ بمراحل وألوان عجيبة. على 75 ميلاً من أكبر قلعة رأسمالية في التاريخ، أقيمت أول جمهورية شيوعية قبالتها. وأشهر، أو أسوأ بلد في تاريخ العبودية السوداء، أصبح رئيسه ابن رجل كيني مزواج، صدفت بين زيجاته امرأة أميركية بيضاء. باراك حسين أوباما رئيسًا للبلد الذي ذهب إلى حرب أهلية فقد خلالها أكثر مما فقد في جميع حروبه، لكي لا «يحرر العبيد». كان «السود» حتى الخمسينات، ممنوعين من دخول الفنادق والمطاعم وركوب المقاعد الأمامية في الحافلات، فإذا رجل أسود يتقدم الموكب.
كنت عائدًا مشيًا ذات مرة إلى فندقي في نيويورك، فوجدت نفسي فجأة في متاهة. مداخل الشوارع مغلقة الواحد بعد الآخر. لماذا؟ ما الذي حدث فجأة يا أخا العرب؟ إنه باراك يزور المدينة، والمدينة تتحول من أجله إلى قلعة. ورجال الشرطة البيض يحرسون المفارق. هذا بلد اغتيل فيه أبراهام لينكولن وجون كيندي، وأصيب رونالد ريغان في محاولة فاشلة، ولذا، لا مكان للإهمال.
فيدل كاسترو نجا من مئات محاولات الاغتيال، بعضها أيام كيندي وريغان. اختار الحل الآخر، المصافحة: «هذي يدي عن بني مصر تصافحكم/ فصافحوها تصافح نفسها العرب»! ورحم الله حافظ إبراهيم. فالعرب لم تعد تصافح نفسها حتى في الاجتماعات والمؤتمرات.
لم يكن التحول الكوبي الأميركي وحده مفاجأة المتحولين. إليك السيد إردوغان. لقد انتقل إلى المقلب الآخر في تحالف مع إيران وروسيا. ألم يكن هو الذي أسقط الطائرة الروسية فوق بلاده خلال 15 ثانية من خرقها الأجواء؟ نعم. نعم. لكن هذا يا مولاي كان في الأمس. غدًا يوم آخر.
إلى اللقاء..