رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

الاستبسال في استنقاذ اليمن وسوريا

لا تقتصر المفاجآت العسكرية الجدية على سوريا، بل تتعدّاها إلى اليمن، فقد تكثف القتال والهجوم على ثلاث جبهات؛ جبهة صنعاء، وجبهة تعز، وجبهة المحافظات الوسطى. فعلى جبهة صنعاء، هناك تقدمٌ كبيرٌ وعسيرٌ في نهم مع تهديدٍ مبطن بالتقدم بعد نهم إلى أرحب وبني حشيش على أطراف العاصمة صنعاء. وفي جبهة تعز المحاصرة منذ أكثر من عام، هناك هجمات على عدة نواحٍ في غرب المدينة وجنوبها وشرقها. ورغم أنها «هجمات» وليست دفاعًا أو لم تعد كذلك، فإنها حتى الآن إنما تستعيد تلالاً ونواحي وقرى احتلتها الميليشيات في الشهور الأخيرة سعيًا لإحكام الحصار. ورغم المبشّرات الظاهرة من حول تعز للمرة الأولى، فإنّ «المقاومة» لا تزال تستغيث بالمواطنين، طالبة بمزيد من الشبان للتجنيد - كما تستغيث بالحكومة الشرعية وبقوات التحالف للإمداد بالسلاح النوعي ولتكثيف الغارات. على أنني أحسب - ولستُ خبيرًا عسكريًا لكنني أعرف اليمن عن كثب - أن الخطر بدأ بالانحسار عن تعز والمخا وإب، بسبب التضييق على الميليشيات في صنعاء، وعلى الميليشيات الحوثية والعفّاشية، وميليشيا «القاعدة» في المحافظات الوسطى بين الشمال والجنوب مثل أبين وشبوة ولحج والبيضاء. والواقع أنّ تحرير المحافظات الوسطى (بما في ذلك محافظة الجوف على الحدود مع السعودية) هو في أهمية معركة صنعاء أو حربها. ففي الأيام القليلة الماضية استطاعت القوات اليمنية مدعومة بطيران التحالف طرد «القاعدة» (= أنصار الشريعة) من أبين. و«القاعدة» والميليشيات الحوثية تتجاور وتتعاون في كل من لحج وشبوة والبيضاء. وتعتمد في تشبثها بتلك النواحي على الطبيعة الجبلية والصحراوية، وعلى الخصوصيات القبلية، وعلى الاقتراب من المناطق البترولية. ثم إنها تستطيع تهديد عدن، وإقفال الطرق إلى تعز. ولذلك فإنّ القوات اليمنية بمعونة التحالف، إن تمكنت من إقفال جبهات المحافظات الوسطى هذه؛ فإنها تُضعِفُ «القاعدة» إضعافًا شديدًا، وتُرغم الحوثيين وصالحًا على الابتعاد عن الوسط وعن تعز. وفي ظني أنه بعد المحافظات الوسطى والتقدم على جبهة تعز، لا بد من تحرير السواحل فيما بين ميدي والحديدة رغم طول الجبهة. وكما أمكن تكوين ثلاثة ألوية جديدة هاجمت «القاعدة» في أبين، وستتقدم بالضرورة مع قواتٍ أُخرى تُلاقيها، فهناك جهودٌ كبرى لتكوين مزيد من الألوية من السواحل ونواحي الشمال ومحافظاته الشاسعة. وقد انضمّ إلى الجيش الوطني في الأيام الأخيرة مئات الجنود من مختلف الألوية التي كانت مرابطة بالشمال واضطهدها الحوثيون واستولوا على عتادها. وفي هذا السياق لا يختلف علي عبد الله صالح عن بشار الأسد، في «إقدامه» من دون ترددٍ على تحطيم الجيش الوطني وإذلاله، لأنّ ضباطًا كثيرين جدًا فيه أبوا الخضوع للميليشيات المتأيرنة. وتبقى صعبة بالفعل وعالقة قضية التعرض للحدود السعودية، وهي مشكلة ينبغي اجتثاثها من جذورها، ولو كان ثمن ذلك الدخول من جانب القوات الخاصة والإنزالات في أراضي الخصم على نحوٍ أكثر كثافة وفعالية.
لا بد من الحسم في حرب اليمن التي طالت. وليس ذلك للتخفيف عن الشعب اليمني وحفظ وحدة البلاد وإعادة المهجَّرين فقط؛ بل ولكي لا يتفاقَمَ التدخل الخارجي. ولا أقصد بالتدخل الخارجي التدخل الإيراني والميليشيات التابعة له، فهو حاصلٌ ومتفاقم. وإنما أقصد التدخل الدولي. فقد أظهرت روسيا الاتحادية تغيرًا في موقفها في مجلس الأمن، واكتشف الجيش اليمني أسلحة روسية حديثة (مصنوعة في عامي 2014 و2015) بأيدي الحوثيين وقوات صالح. ثم إنّ بعض المؤسسات الدولية وبعض الدول الأوروبية أظهرت تذمرًا بحجة القضايا الإنسانية!
والاستبسال العربي في اليمن، ستكون له آثاره أيضًا وأيضًا على الموقف العربي في سوريا. فقد أظهرت قوى الثورة السورية المسلَّحة قدرات منقطعة النظير ما كان ممكنًا توقعها بعد صمود سنواتٍ خمسٍ في وجه أعتى القوى من إيران وميليشياتها المقدرة بعشرات الأُلوف، وإلى الطيران الروسي والأسدي الذي يمارس سياسات الأرض المحروقة، وإلى حرب الإبادة التي يشنُها «الداعشيون» في كل المواطن التي يبلغها إرهابهم. ومن الواضح أنّ الثوار تحسنت تكتيكاتهم العسكرية كثيرًا، وصاروا أكثر تعاونًا وتساندًا فيما بينهم، كما أنهم تلقّوا بعض الأسلحة النوعية. بيد أنّ المقلق في الأسبوعين الأخيرين، ورغم التطورات الإيجابية على أرض المعركة، هو رهان روسيا الاتحادية وإيران على تغيير الموقف التركي تجاه قوى الثوار، وتجاه بشار الأسد. فقد كان الضيق مسيطرًا على إردوغان قبل محاولة الانقلاب من الموقف الأميركي المتصلّب تجاهه والانحياز إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية، التي استولت أخيرًا على منبج، وتريد الآن الذهاب (بدعم أميركي بالطبع) إمّا باتجاه مدينة الباب وإما مدينة جرابلس، وفي كلتا الحالتين ستكون أقرب إلى الحدود التركية. وفي حين ينشغل الثوار ومعظم قواتهم بالتقدم الصعب جدًا في مناطق النظام، فقد ينجح الأكراد في التقدم عبر أعزاز لربط مناطقهم مع عفرين. ويهدّد ذلك بإقامة الكيان الكردي المتكامل في مناطق نصف سكانها أو أكثر من العرب وبعض التركمان، كما أنّ الثوار والمدنيين يصبحون محاصرين بين «داعش» والأكراد وقوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية.
إنّ الواضح الآن أنّ «التعاون» الأميركي - الروسي وبعد مسارٍ لصالح روسيا وإيران خلال ثلاث سنوات، لن يمضي قُدُمًا. فالأميركيون أعلنوا عن إقامة قاعدتين عسكريتين في سوريا في المناطق الكردية، كما أنّ الروس أعلنوا أنّ الأميركيين لا يبدون مستعدين لمتابعة التعاون ضد الإرهاب! ويستطيع السعوديون أن يحاولوا التقريب بين وجهتي النظر التركية والأميركية حتى لا ينضمَّ الأتراك إلى التحالُف الآخر مع أنّ ذلك يبدو صعبًا: صعوبة أن يتخلَّى الأتراك عن المسلَّحين المقاتلين ورُبعهم من التركمان الذين هجَّر عائلاتهم القصف الروسي - وصعوبة أن يتخلَّى الأميركيون عن الأكراد. إنما الممكن إقناع الأميركيين بإيقاف الأكراد عند الحدود التي وصلوا إليها، وأن يكون هناك غطاءٌ جوي أميركي لقواتٍ عربية - تركمانية لاستعادة جرابلس والباب، وتكوين جبهة في مواجهة الرقة. المشكلة التي تكاد تكون مستعصية تتمثل في الشكوك الهائلة بين الأتراك والأميركيين. والأتراك الآن لا يظهرون اهتمامًا بالتقدم الكردي في سوريا، بقدر اهتمامهم بإرغام الأميركيين على تسليمهم غولن! وسيأتي نائب الرئيس الأميركي إلى تركيا أواخر شهر أغسطس (آب)، وفي ذك فرصة للدبلوماسية السعودية في الاتجاهين.
لقد صارت المواجهة مع إيران شاملة منذ سنوات، وقد كان ذلك هو خيار إيران. وهذا الكلام لا اعتذار فيه ولا تبرير. أمام صون عروبة سوريا ووحدة أراضيها يسهل كل صعبٍ وعسير. ومن ضمن التحدي الحرص على التواصُل مع تركيا ومع روسيا، والحرص على توثيق التعاون مع الولايات المتحدة رغم المرارات.
إنّ الاستبسال في الحيلولة دون ضياع اليمن، والاستبسال في مواجهة تغييب العرب عن سوريا، كلا الأمرين عملٌ قومي كبير من أجل الحاضر والمستقبل. ويا للعرب!