د. ابتسام الكتبي
رئيسة مركز الإمارات للسياسات
TT

نحو استراتيجية خليجية لمواجهة السياسة الإيرانية

يبدو أن التقدير الاستراتيجي الذي تتبناه طهران اليوم مفاده أن الشر يأتيها من مصدرين؛ «ابتلاع الخارج»، والمصالحة مع الداخل، لا سيما أن افتقار إيران لنموذج جاذب يمكن تصديره لا يسمح لها بأن تكون مثالاً يُحتذى في الاقتصاد أو الاجتماع أو نمط الحكم وطبيعة التدين، فثمة هشاشة في الواقع الاقتصادي والاجتماعي في إيران، حيث البطالة والفقر في تزايد، وثمة انتشار كبير للمساكن العشوائية، وانتشار للمخدرات والأفيون في المجالس الدينية والخاصة، وهناك تصاعد لظاهرة التشرد في طهران ومشهد، ومحاصرة لأي تأويلات منفتحة في الممارسة الدينية، وتقييد للحريات الفردية، وعلاقة شك بالمجتمع الدولي ومؤسساته الاقتصادية والسياسية، وسوى ذلك مما لا يسعف إيران لأن تكون مقنعةً حين تتحدث عن تصدير الثورة، ولقد صار جليًا أن المقصود هو تصدير الأزمات للخارج، وإغراق الجيران بالصراعات الطائفية كمدخل لنفوذ إقليمي.
مع الحرب في سوريا خسرت إيران قوتها الناعمة، فلجأت إلى تصعيد الخطاب الطائفي، ظنًا أن ذلك سوف يسهل عليها مهمة تعميق مركزيتها للشيعة في المنطقة، غير أن هذا المشروع يعمق أزمة الدولة الإيرانية نفسها وأزمة الهوية فيها، من خلال الاستقطاب المذهبي والعرقي والقومي الداخلي المتأثر بشروط العدالة والمساواة المختلة، والمتأثر أيضًا بالسياق الإقليمي المستجد.
إن النظام الإيراني يعيش قلق الانقسام الحاد من الانفتاح داخليًا وخارجيًا، حيث يرى النظام في إفساح المجال للحرية السياسية والاجتماعية والدينية مصادر خطر تهدد الأسس غير المتناغمة في الهوية الوطنية، كما يرى النظام في الانفتاح بالعلاقات على الغرب مقدمةً لتفكك مقولات الثورة وشعاراتها، ولذا فهو يتجنب تطبيع العلاقات إلا عند الضرورة، كما حصل في موضوع الاتفاق النووي. ولطالما حذر السيد علي خامنئي من أن «الأعداء يريدون أن يبتلعوا إيران». وقد تكرس هذا التوجس مع توثيق جلسة مجلس الأمن الدولي في الثامن عشر من الشهر الحالي لانتهاكات إيران للاتفاق النووي، خصوصًا ما يتعلق بتطويرها برنامج الصواريخ الباليستية، وتدخلها في سوريا، الذي اعتبره «غير قانوني». وقد حذرت مندوبة أميركا لدى المجلس، سامانثا باور، من أن على مجلس الأمن ألا يغفل عن النشاطات الإيرانية المخالفة للاتفاق النووي، ومن ضمنها شحنات الأسلحة التي ترسلها طهران لجماعات مسلحة في غير بلد في المنطقة.
والظاهر أن إيران ماضية في سياسة تأجيج الصراعات الطائفية، وأنها ليست في وارد الإصغاء للمطالب العربية والخليجية في الحوار واحترام سيادة الدول، مما يتطلب بإلحاح استراتيجية خليجية موحدة تنحي الخلافات البينية، وتعتمد على التعاون الجماعي المشترك. ويمكن الإشارة في هذا الإطار إلى أهم مقومات هذه الاستراتيجية:
1 - بناء الرؤية الخليجية المشتركة على أساس الشراكة الكاملة للشيعة العرب في الوطن والمواطنة المتساوية الضامنة لحرية المعتقد قانونًا ودستورًا وممارسة، وصياغة الاستراتيجية الأمنية الخليجية على أساس أن التطرف والإرهاب، سنيًا أو شيعيًا، هو أكبر تهديد لدول المنطقة وشعوبها، وهو ما يعيد تأكيد أن الخلاف مع إيران ليس مذهبيًا، وإنما سياسي وأمني، ويستهدف الحيلولة دون تهديدها لأمن الخليج بالميليشيات الطائفية.
2 - مواجهة الخطر الإيراني تبدأ من تحصين الجبهة الداخلية الخليجية وبناء مجتمعات متماسكة ودول مؤسسات تحقق مفهوم الأمن الشامل والاستقرار المستدام، عبر تعزيز الحوكمة ومحاربة الفساد وتطوير آليات توزيع الثروة، وتوسيع المشاركة الشعبية في القرار، وتمكين المرأة، وإنتاج كفاءات للعمل العام من النساء والرجال، والتفكير المنهجي بتطوير العقد الاجتماعي.
3 - زيادة الاستثمار الخليجي في مجال التصنيع العسكري، وتطوير صناعة وطنية حديثة في هذا الحقل، في سياق خطة استراتيجية متكاملة لتحقيق نسب عالية من التصنيع الذاتي، مما يتطلب بناء المنظومة التعليمية على أسس جديدة وصياغة سياسات الابتعاث الخارجي والبحث العلمي والمسؤولية الاجتماعية للشركات والقطاع الخاص بما يتناغم مع متطلبات الأمن القومي وحماية مكتسبات التنمية وتركيز النظر على إمكانات الاقتصاد الرقمي والثورة الروبوتية.
4 - تأسيس استراتيجية مواجهة أخطار السياسات الإيرانية التدخلية في شؤون المنطقة العربية على فكرة أن أهم عناصر القوة الخليجية تكمن في أنها تسعى لترسيخ نماذج معتدلة في الحكم والسياسة والاجتماع والاقتصاد والعلاقات الدولية، في مقابل نسق مغلق للحكم في إيران يستند داخليًا إلى القبضة الأمنية المشددة والاستبداد الديني وصراعات مراكز النفوذ وغياب النموذج الجاذب في التنمية، ويستند خارجيًا إلى إدامة التدخل في شؤون دول الجوار وعدم التجاوب مع المبادرات الخليجية لبناء هيكل أمني إقليمي يسع الجميع ويضمن مصالحهم، دون معادلات صفرية.
5 - تطوير المنظومة التعليمية الخليجية، وزيادة الإنفاق على البحث العلمي، واعتماد مفهوم شامل للقوة يقع في صلبه قوة الأفكار والابتكار والاستثمار في الموارد البشرية وبناء القيادات والنخب الوطنية، واعتماد مبدأ التدريب المنهجي المستدام، وتحسين مستويات التعليم المدرسي والجامعي، وتعزيز التفكير العلمي والنقدي، من خلال توسيع منهجية النقد الذاتي بتدريس مناهج علم الاجتماع والفلسفة، إلى جانب العلوم التطبيقية.
6 - إيلاء الاهتمام بصياغة استراتيجية إعلامية خليجية ذات رؤية واضحة، لا سيما في ظل الحملات الإعلامية المعادية التي تواجهها دول الخليج سواء في الإعلام الإيراني والموالي له عربيًا أو في الإعلام الغربي، خصوصًا أن أي إخفاق في ساحة الإعلام له تكاليف سياسية باهظة، سواء على صورة دول الخليج أو على قدرتها على إنفاذ سياساتها. ويبدو الإعلام الخليجي والعربي الناطق بغير العربية نقطة ضعف أساسية ومن المهم معالجتها.
7 - توظيف القوة الاقتصادية والمالية والدبلوماسية لدول الخليج ووجود رجال الأعمال الناشطين على الأراضي الأميركية من أجل انتزاع مزيد من الفاعلية في خريطة دوائر التأثير داخل أميركا وأوروبا، خصوصًا في حقول الدعاية والإعلام ومراكز الأبحاث وصناعة السياسات، والانخراط في حوارات جادة ومستمرة مع كبار الإعلاميين ورجال السياسة والفكر. ومن مداخل ذلك نشر حقائق وبيانات دقيقة حول الإصلاحات الخليجية، وحول التطرف المسلح الذي تمارسه الجماعات الشيعية المسلحة، وتفنيد أعمال الدعاية المضادة ضد المصالح الخليجية، وإبراز جهود دول الخليج في مكافحة الإرهاب ومحاربة التطرف وتعزيز بيئة الاستقرار الإقليمي والدولي والصداقة بين الشعوب، ونزع أي غطاء إسلامي عن «داعش»، الذي يسعى اليوم إلى تفجير وجود الجاليات المسلمة والعربية في الغرب.
8 - إجراء مراجعات نقدية لأداء الطواقم الدبلوماسية الخليجية لدى الدول الغربية، والسعي لإخضاعهم لتدريب مستدام لتحقيق هدفين؛ الأول رفع كفاءتهم ومهاراتهم وأدائهم، والتحرك وفق رؤية إعلامية وسياسية متكاملة ومتماسكة. والثاني مأسسة الإطار الدبلوماسي الخليجي باتجاه عدم الاعتماد فقط على جهود وزراء الخارجية الخليجيين ومساعديهم، بل أيضًا، كما يقول باحثون، تشغيل كامل طاقة الماكينة الدبلوماسية والإعلامية الخارجية، وتنشيط مشاركة النخب الأكاديمية ورجال الأعمال والطلبة للدفاع عن السياسات الخليجية والتسويق لها وفق خطط مؤسسية مدروسة، تعتمد على التواصل الشخصي الممنهج والصبور وحضور الورش والمؤتمرات والفعاليات وتوسيع دوائر الأصدقاء والشركاء والحلفاء.