ديانا مقلد
كاتبة واعلاميّة لبنانيّة
TT

ذاكرة مريرة

هل يمكن للنسيان أن يساعد في حل النزاعات أكثر مما تفعله الذاكرة الجماعية النشطة..؟
سؤال طرحه الكاتب الأميركي «ديفيد ريف» في كتابه «الذاكرة أم النسيان»، وفيه يطرح رأيا خلاصته أن العالم المعاصر قد طور مشاعر هوس مرضي بالذاكرة، وأنه حان الوقت كي نعطي النسيان فرصة، داعيا إيانا إلى اختبار قوة فقدان الذاكرة السياسي على علاجنا. بالطبع، كان الكاتب يناقش حالات تجاوزها الغرب، كالحرب العالمية الثانية، وحرب البوسنة، والحرب الأهلية الأيرلندية، أي أنه ناقش ذاكرة هدأت نسبيا.
أستذكر هذا النقاش فيما السجال عندنا هذا الأسبوع قد اشتعل حول الذكرى المائة وواحد للمجازر الأرمنية، والخلاف الإعلامي والسياسي المستمر حولها منذ قرن. فهناك من يواظب على شن هجوم مضاد لجهود إحياء الذكرى ترافقت مع حملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحاول اعتبار الإبادة الأرمنية نقطة خلاف تاريخي.
في هذه الحالة، وقبل طرح نظرية الذاكرة والنسيان، فنحن نحتاج مثلا إلى حسم مسألة الازدواجية الأخلاقية والإنسانية التي بتنا نتقنها للأسف. فهنا، لا يسعنا سوى أن نسأل لماذا لا تزال مسألة إبادة جماعية كالتي تعرض لها الأرمن قبل مائة عام مثار جدل وتوتر دولي وإثني وطائفي؟. فالقتل الجماعي الذي ارتكبه حينها العثمانيون خلال الحرب العالمية الأولى ليس مدار تشكيك تاريخيا، ومع ذلك لا تزال إشكالية التسليم به قائمة، ليس فقط من قبل القيادات التركية، بل حتى من رأي عام عربي وإسلامي بات شديد الحماسة لـ«السلطنة» وماضيها.
وهنا، وبالعودة إلى فكرة النسيان والذاكرة، يصرّ الأرمن وعن حق، أن يتذكروا الإبادة في محاولة للتكفير عن الألم والمعاناة الماضية واستخلاص عبرة مفادها «لن تتكرر أبدا»..
لكن هل حقا لم تتكرر..؟
السؤال هنا لا يتعلق بالحالة الأرمنية، بل بكل المجازر والإبادات التي ندأب على استذكارها، ومحاولة استخلاص العبر منها. فأي عبرة والمجازر لا تزال مستعرة من حولنا. فإذا كنا لم ننصف الأرمن بعد مائة عام من المجازر بحقهم، فهل ننتظر أن ينصف العالم ضحايا مجازرنا الراهنة؟. وهاهم ضحايا مجازر حلب الذين سقطوا بقصف بات روتينيا من قبل قوات النظام، ولم يتحرك أحد.
صحيح أن التذكر واجب أخلاقي تجاه الضحايا وتجاه الحقيقة، وهو غالبا ما يقترن بدرس نحاول أن نقنع أنفسنا به، وخلاصته أن ما حصل يجب ألا يتكرر. لكن الأرجح أننا نحاول التشبث بفكرة أن إحياء المأساة الأليمة قد يساهم في عدم حصولها مرة أخرى، وفي هذا هدف نسوغ من خلاله إصرارنا على إبقاء ذاكرة الحروب والمجازر مشتعلة، وهو حتما إصرار مشروع وضروري أحيانا، خصوصا حين يطغى الإنكار والتكاذب.
لكن إحياء ذاكرة الحرب لم يمنع تكرار القتل والمجازر، وهاهي سوريا تلقننا هذا الدرس كل يوم.
صحيح أن إبقاء الذاكرة حية قد يحول الماضي إلى منبع كراهية، خصوصا حين تكون الحقائق ثقيلة؛ ما يجعل الأمور تتعقد أكثر حين يتم إسقاطها على الواقع المعاش. وهنا، من الصعب القول: إن الناس يجب أن يتعلموا ويعرفوا تاريخهم دون أن يتذكروه، في حين أن الكثير من الغرائز والهويات الثقافية والمشاعر تجعلنا نريد أن نتماثل مع تاريخنا.
يقول الكاتب ديفيد ريف: «كل شيء سيتم نسيانه.. إنه الجزء الآخر من الرحيل. هل سيحول استذكارنا لها أننا لن نرتكب إبادات مستقبلية.. التاريخ يقول لنا إن الأمر ليس كذلك».
[email protected]