على مدى عقود تكشفت كثير من الحقائق بشأن قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، فبمقدورها أن تفعل الكثير عن طريق فصل المتخاصمين وتهدئة المناطق التي يسكنها مدنيون. حدث في بعض المرات أن أدينت تلك القوات بارتكاب انتهاكات جنسية وفساد مالي في البلدان التي أرسلت إليها للمساعدة في إحلال السلام فيها، وتعتبر الدول الأقل ثراء المصدر الأكبر لتلك القوات، على عكس الحال في الدول الغنية التي تكتفي بتمويل تلك العمليات.
ركز الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون على تحسين أداء قوات حفظ السلام في مهام التحدي القتالية في الدول التي أرسلوا إليها مثل مالي وجنوب السودان. وأعلن الرئيس الأميركي أوباما التزام الولايات المتحدة بإرسال 40 ألف جندي إضافي من الجيش والشرطة من 50 دولة.
غير أن المهمة الأكبر لم تنفذ بعد، فعمليات التدريب، والخبرات القتالية والرواتب الأعلى نسبيًا التي يتقاضاها جنود الدول النامية كلها قد تشكل عوامل تأثير عليهم عند العودة لبلدانهم. ولذا فالأمم المتحدة في حاجة لدراسة وتوضيح مدى تأثير هذا الوضع عند عودة هؤلاء الجنود إلى أوطانهم. ينطبق السؤال على كثير من الدول، لكن الإجابة لا تزال غائبة ولفترة طويلة، فالبيئة الحالية، التي تشهد الكثير من الصراعات المتزامنة، خلقت سوقًا رائجة لقوات حفظ السلام، وعليه سمحت كثير من الدول النامية للأمم المتحدة باستئجار جنودها. بالمقارنة بالعقود الماضية، تأتي أغلب قوات حفظ السلام الآن من دول ليست فقط فقيرة، بل أقل ديمقراطية ولا تتمتع بمؤسسات الدولة الحقيقية.
بين عامي 1994 و2014، تراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الدول التي أرسلت بقواتها بواقع 64 في المائة. ومن ضمن أكبر خمس دول من الناحية العددية أرسلت قواتها لمناطق النزاع حلت بنغلاديش، وإثيوبيا، وباكستان، ورواندا في المقدمة. ويلعب العسكريون في تلك الدول دورًا كبيرًا في السياسة المحلية والإقليمية، منها العنف الذي يمارس ضد المدنيين.
في العام المالي الحالي، خصصت الأمم المتحدة أكثر من 8 مليارات دولار لنشر 120 ألف جندي من قوات حفظ السلام. وتدفع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغنية بسخاء لتمويل تلك العمليات وفى تدريب وتسليح قواتها. بيد أن الولايات المتحدة لا ترسل سوى 100 جندي وضابط أو أقل للمشاركة في مهام الأمم المتحدة.
كذلك زادت قوة وطبيعة عمليات حفظ السلام، إذ باتت اليوم تقوم بمكافحة التمرد، في حين أن دورها كان يقتصر في السابق، وبشكل تقليدي، على الفصل بين الفرقاء ورصد تحركات الجانبين بعد توقف القتال بينهما. في الحقيقة تقوم الأمم المتحدة بتجربة ما يعرف بـ«كتائب التدخل» التي تتكون من قوات من مالاوي، وجنوب أفريقيا، وتنزانيا، التي جرى تكليفها بمهام هجومية في الكونغو الديمقراطية.
خصصت الولايات المتحدة مصادر ضخمة للتدريب في المراحل التي تسبق نشر القوات في تلك المهام. ومنذ عام 2013، على سبيل المثال، تلقى واحد من كل خمسة جنود روانديين تدريبات في حفظ السلام على يد القوات الأميركية. ويبلغ الراتب الشهري للجندي في قوات حفظ السلام 1332 دولارًا، وهو مبلغ يعادل في الغالب من ثلاثة أضعاف إلى 20 ضعف ما يتقاضه الجندي في بلاده.
لكن ماذا يحدث عندما تنتهي مهام هؤلاء الجنود؟ هل تتغير الأمور للأحسن أم للأسوأ؟ إذ إن تدريبات حفظ السلام والقتال تقدم خبرات من الممكن توظيفها في الأمن الداخلي (أو القمع) في بلدان هؤلاء الجنود.
ولنأخذ بوروندي مثالاً، حيث قامت أقلية في الجيش، ثلثهم جرى نشرهم ضمن قوات حفظ السلام، بالتحريض على انقلاب عسكري فاشل العام الماضي، وقمعوا احتجاجات ومظاهرات للمدنيين ضد تولي الرئيس بيير نكرونزيزا لفترة رئاسة ثالثة غير دستورية، ثم انشقت تلك المجموعة عن الجيش لتشكل معارضة مسلحة. حتى الآن، لا يزال أغلب الجنود على الحياد مع بعض المدافعين من المدنيين مع تصاعد أحداث العنف.
قد يعنى هذا أن خبرات حفظ السلام قد تشكل عنصرا من عناصر الاستقرار، حتى وإن استخدم المال الذي دفع نظير خدمات قوات حفظ السلام في مساعدة الرئيس على التمسك بالسلطة.
تشكل إجمالي التعويضات الشهرية، والتدريبات والمعدات، والمساعدات المالية المتزايدة مصدر دخل كبير لجزر فوجي التي تعاني من أزمات مالية، وكان عدد الجنود الذين أرسلتهم فوجي للانضمام لقوات حفظ السلام الأكبر على الإطلاق منذ عام 1970 بالنسبة لعدد سكان تلك الجزر. بيد أن التأثير الاقتصادي لهذا الدخل يشبه ما يطلق عليه «لعنة الموارد». فبالنسبة لجزر فوجي، تقترب رواتب قوات حفظ السلام وحدها من 10 ملايين دولار سنويًا، أي ما يعادل خُمس إجمالي ميزانية الدفاع هناك، وربما شكل هذا المبلغ الدعامة الأساسية التي يرتكز عليها النظام السياسي هناك والذي يهيمن عليه الجيش.
إذن من الممكن لمثل هذا التدفق النقدي أن يساهم في زعزعة الاستقرار. فحسب ماغي دوير، أستاذة الدراسات الأفريقية بجامعة أدنبره، فإن عشر حالات تمرد على الأقل في غرب أفريقيا منذ عام 1991 جرى ربطها بشكاوى قوات حفظ السلام العائدة والتي شعرت بخيبة الأمل لنقصان رواتبها في بلدانها، بالإضافة إلى الفساد الذي شاهده أفراد تلك القوات في الضباط الأعلى رتبة.
في النهاية، قد تستخدم الأنظمة مساهمات حفظ السلام بديلاً عن المعونات المقدمة من هيئات المعونة الدولية لتقاوم الضغوط الرامية إلى إجراء إصلاحات داخلية.
واستمرت أوغندا كواحدة من ست دول تلقت معونات نظير مشاركتها بقوات حفظ السلام بلغت قيمتها 500 مليون دولار تحت اسم «الاستجابة السريعة للشراكة في حفظ السلام».
بالطبع لعبت جيوش أخرى ذات خبرات كبيرة في مجال حفظ السلام أدوارًا إيجابية في بلادها. فبوركينا فاسو التي شهدت انقلابات عسكرية متتالية، ترسل تقريبًا ربع جيشها في مهام حفظ السلام سنويًا، ويبدو الآن أن صف وجنود الجيش قد اصطف خلف الشعب في مواجهة آخر مجموعة حرضت على الانقلاب وهددت بإفساد الانتخابات المقرر إجراؤها قريبا.
الخلاصة هي أن تدفق المال الوفير والتدريب والخبرات القتالية لقوات حفظ السلام غالبا ما يكون لها تأثيرات كبيرة على بلدانها. لكن بالنظر إلى المطالب الحالية، لا تستطيع الأمم المتحدة بمفردها أن تنتقي المكان الذي تختار منه قواتها.
وبناء عليه، إن أراد الغرب أن يعكس المنحى التنازلي للمال والديمقراطية في الدول التي ترسل بقواتها بأعداد كبيرة، فالمسألة ليست مجرد دفع أموال لسد الأفواه، إذ يتعين على الولايات المتحدة وغيرها من الدول إرسال قواتها أيضًا، مما يخفف من الحاجة إلى إرسال جنود من الدول التي تشهد نزاعات داخلية.
كذلك على الأمم المتحدة أن تدرك أن قوات حفظ السلام العائدة إلى بلادها تشارك في سياسات بلدانها سواء سلبًا أو إيجابًا. ومن العقل وحسن التدبر أن ندرس المقاتلين في قوات حفظ السلام وننتبه لأحوالهم، وندرس كذلك الفرق الطبية وغيرها من التعزيزات التي ترافق تلك القوات.
في الولايات المتحدة، نقوم بدراسة عواقب تقديم معدات عسكرية إضافية للشرطة المحلية، هي نفس المعدات التي استخدمتها قواتنا أثناء مشاركتها في مكافحة التمرد بتلك الدول؛ إذ إنه يتعين علينا الانتباه، شأن غيرنا من الدول، إلى النتائج المترتبة على عودة قواتنا التي شاركت في عمليات حفظ سلام مشابهة لتلك التي تمت في دول أقل ثراء وأقل ديمقراطية وأقل استقرارًا.
* جوناثان دي كيفيرلي، زميل بمركز ودرو ويلسون وباحث مشارك ببرنامج «إم أي تي للدراسات الأمنية»، وجيسي ديلون سافاج محاضر بجامعة ملبورن
* خدمة «نيويورك تايمز»
