توبين هارشو
TT

الجيش الأميركي.. جنود استغلوا كفئران

على مدار عقود وافق الجنود الأميركيون على عرض من قبل الجيش الأميركي يصعب رفضه: عدة أيام بعيدًا عن العمل الشاق في القاعدة العسكرية، مقابل السماح للعلماء بإخضاعهم لبعض اختبارات السلامة. بيد أن هؤلاء الذين وافقوا كانوا على موعد مع مفاجأة مروعة.
عقب الحرب العالمية الأولى وحتى سبعينات القرن الماضي، تعرض الجنود والبحارة الأميركيون، ودون علمهم، إلى غاز الخردل وترياقات تجريبية مضادة لغازات الأعصاب ومواد سامة أخرى. والآن يريد الناجون أن يعرفوا بالضبط ما الذي فعله الجيش بهم. يريدون الرعاية الطبية. إلا أن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تبدو مصممة على معاملتهم وكأنهم مجموعة من المتمارضين الذين يحاولون التهرب من خدمة مطبخ الجنود.
وتمثل الآن دعوى قضائية جماعية 70 ألف جندي على الأقل يدفعون بأن تلك التجارب تسببت في إصابتهم بأنواع مختلفة من السرطانات وانتفاخ الرئة وأمراض أخرى خطيرة. هؤلاء الجنود يريدون أن يعرفوا بالضبط نوعية المواد التي تعرضوا إليها، ومدى خطورتها، علاوة على إعفائهم من أي تعهدات وقعوها خلال التجارب للحفاظ على السرية، وتلقيهم الرعاية اللازمة للحالات التي نجمت عنها. وتبدو هذه الطلبات منطقية ومفهومة. لكن البنتاغون ووزارة العدل يقاومان هذا المسعى، بدعوى أن الجيش حاول التواصل معهم على مدار السنوات الماضية دون أن يدرك النجاح.
الدائرة التاسعة بمحكمة الاستئناف في كاليفورنيا أيدت موقف الناجين وأمرت وزارة الدفاع بالكشف عن تلك المعلومات ووجهت الجيش، وليس وزارة شؤون المحاربين القدامى المثقلة بالأعباء، بعلاج حالاتهم المرضية. إلا أن هذا الحكم لم ينه هذه المهزلة، حيث يطلب البنتاغون إعادة النظر في القضية.
في الحقيقة سيكون من الصعب إثبات أن أي حالات مرضية أو وفاة بين الجنود كانت النتيجة المباشرة لاختبارات الجيش، لكن كثيرين منهم تعرضوا لتجارب مفزعة. ومن أجل ذلك وحده، يستحق هؤلاء الإنصاف في المحكمة والحصول على تعويضات.
يذكر أن الجيش والبحرية الأميركيين استغلا جنودهما إبان الحرب العالمية الثانية كفئران تجارب لاختبار آثار غاز الخردل وتقييم كفاءة الملابس الواقية، خشية أن يلجأ الألمان إلى الأسلحة التي استخدموها في الحرب العالمية الأولى. وما زال بعض الرجال، الذين أصبحوا الآن في العقدين التاسع والعاشر من أعمارهم، يتذكرون تعرضهم لغاز الأعصاب فيما كانوا محتجزين داخل غرف محكمة الإغلاق ومزودة بمراوح تدفع الهواء عبر ألواح ثلج بهدف زيادة الرطوبة، مما يعزز فعالية الغاز. النتيجة كانت احمرار جلودهم وتقرحها، بل وسقوطها عن أياديهم. ويقول البعض إن تلك الإصابات الجلدية تلازمهم حتى الآن.
كما تظهر السجلات أن علماء فصلوا بين الجنود بحسب أعراقهم، للوقوف على الاختلافات في تأثير التجارب على السود والآسيويين واللاتينيين. وخضعت مجموعة من الجنود البورتوريكيين لتجارب الجيش في العراء على جزيرة «دكتور مورو» قبالة بنما. ويقولون: «كنا نرتدي أزياء لحماية أنفسنا.. كانت هناك أرانب. وجميعها قد نفق».
وبينما يوصف هؤلاء الرجال بأنهم متطوعون، تكشف السجلات المتاحة أن كثيرين منهم تلقوا أوامر بالمشاركة. ولم تصنف وزارة الحرب، كما كان يطلق عليها آنذاك، هذه الاختبارات بأنها تجارب على البشر، مما يعفيها من الحاجة إلى الموافقة الواعية من جانب الجنود.
وفي العقود اللاحقة، تحول الجيش الأميركي إلى تجربة الأسلحة البيولوجية وأسلحة الغاز، في مسعى لإصابة العدو بـ«الخوف والذعر والهستيريا والهلاوس»، كما يصفها أحد العلماء المشاركين في تلك التجارب. واكتشف أحد الرجال الذين خاضوا هذه المحنة في سبعينات القرن الماضي، بعدما حصل على سجلات بعض هذه التجارب بموجب قانون حرية المعلومات، أن العلماء أعطوه ترياقًا مضادًا لغاز الأعصاب رغم علمهم بأن له آثارًا جانبية، ثم سرعان ما أعطوه عقارًا آخر لاحتواء آثار الجرعة الأولى. بينما أعطوا آخرين عقار الـ«أتروبين»، وهو مادة مهلوسة. ويحكي جندي سابق أنه على مدار أيام تالية كان يسمع أصواتا متخيلة ويرى صورًا لحيوانات تخرج من الجدران.
ويصر الجيش الأميركي على أنه لم يتخل عن هؤلاء الرجال، ويزعم أنه حاول الاتصال بالذين تعرضوا لهذه التجارب، لكنه لم يتلق أي رد. وفي أوائل تسعينات القرن الماضي، وبعد رفع السرية عن تفاصيل التجارب التي أجريت إبان الحرب العالمية الثانية، تعهدت وزارة شؤون المحاربين القدامى بمحاولة الاتصال بنحو 4 آلاف جندي خضعوا لهذه التجارب ممن لا يزالون على قيد الحياة، إلا أنها لم تتصل إلا بـ610 منهم، زاعمة أن السجلات كانت غير منظمة بما يستحيل معه التعرف على هوية أفراد كثيرين منهم. واقتصرت محاولات الاتصال على إرسال خطاب واحد، دون متابعة لاحقة للموقف. لكن باحثًا في الإذاعة الأميركية الوطنية العامة، التي كانت مهتمة بالتحقيق في حجم البرنامج، يقول إنها تمكنت من تحديد مكان ضعف هذا العدد من الناجين باستخدام البيانات الحكومية ذاتها.
وبينما تواصل وزارتا الدفاع والمحاربين القدامى عرقلتهما للضحايا، يبدي الكونغرس اهتماما أوسع بالقضية. واستجابة لتحقيق الإذاعة الوطنية العامة، أعلن غاس بيليراكيس، النائب الجمهوري عن ولاية فلوريدا في لجنة المحاربين القدامى بمجلس النواب الأميركي، أنه سيعقد جلسة استماع يدلي خلالها مسؤولو الوزارة بشهادة حول جهودهم لمساعدة الناجين. كما تعهدت وزارة شؤون المحاربين القدامى بمضاعفة جهودها لتحديد أماكن الذين تعرضوا لسموم خلال تجارب الحرب العالمية الثانية.
ورغم أن اهتمام الكونغرس محل ترحيب، فإنه ليس الفرع من الدولة المنوط بمواجهة فظائعه. وينبغي على الجيش التوقف عن التشاحن مع وزارة المحاربين القدامى حول الجهة المسؤولة عن توفير الرعاية الصحية للناجين. أما الخطوة الأولى فتكمن في تعريف هؤلاء الرجال على وجه الدقة بطبيعة هذا العلم المجنون الذي مارسته الحكومة بحقهم.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»