من مصر إلى لبنان والعراق، هناك مظاهر صحوة في الشارع لأهمية عودة الدولة إلى ممارسة دورها في المجتمع، بعد أن عانى الناس الأمرّين من محاولة قوى سياسية تحويل الدول إلى عشوائيات تحكم بالميليشيات التي ابتكرت أشكالا جديدة من العنف والإرهاب والقتل والترويع.
في العراق هناك مظاهرات شبه أسبوعية ضد الفساد ومع الإصلاح وتحسين الخدمات في بغداد، بالتوازي مع المشكلة الأمنية في الأنبار والموصل. وفي لبنان شيء مماثل تحت شعار «طلعت ريحتكم» في إشارة إلى مشكلة تراكم القمامة في الشوارع دون حل، وفي مصر التي استعادت فيها الدولة التقاط أنفاسها بعد محاولة اختطافها في فترة الإخوان، طرحت الحكومة أن مشكلة القمامة قضية أمن قومي، وهي محقة في ذلك.
والحقيقة أن ظاهرة تدهور الدولة ودورها في عدة دول عربية لأسباب مختلفة، انعكست على المدن الكبرى ذات الكثافة السكانية العالية فاختفت منها المظاهر الجمالية، التي كانت موجودة قبل عقدين أو أكثر من الزمان، وأصبح القبح هو المظهر السائد، بما في ذلك القمامة وغيرها من مظاهر القبح والتلوث، التي أصبحت هي المظهر الطبيعي، وكأن تنظيف الشوارع أصبح تكنولوجيا معقدة.
مظاهر التدهور واضحة ويكفي التجول في شوارع مدن عربية كبرى لرؤية مظاهر الفشل في الإدارة من فوضى المرور إلى أزمات القمامة وعدم النظافة إلى الأزمات الأخرى المتعلقة بخدمات الكهرباء والمياه، وهذه كلها تنسحب على أزمات أخرى اقتصادية أهمها البطالة بين الشباب.
هناك عوامل كثيرة وراء تدهور أداء أجهزة الدولة الخدماتية عبر العقود، بدءًا من البيروقراطية إلى الفساد، حتى وصلنا إلى وضع أصبح فيه جمع القمامة مشكلة، لكنّ هناك جانبًا آخر المجتمعات نفسها مسؤولة عنه، وهو السماح للميليشيات بأن تقوى على حساب الدولة وأن تنافسها، فحتى جمع القمامة يحتاج إلى جهة لديها أسنان تستطيع أن تعاقب وتفرض هيبتها، وما حدث أن هذه الميليشيات فرضت الهيبة لنفسها بالآيديولوجيا ومنح حق ممارسة القوة لنفسها، لكنها لا تستطيع أن تقدم الخدمات المطلوبة، وإذا قدمتها جزئيًا فإنها تفعل ذلك لطائفتها فقط.
مشكلة القمامة هي أحد مظاهر الأزمة السياسية في بعض المجتمعات العربية، والتي انفجرت وظهرت العيوب على السطح بعد الربيع العربي الذي تحول إلى خريف، فدخلت مجتمعات في صراعات مسلحة قضت تقريبًا على الدولة، وأصبحت عرضة للتقسيم أو استغلها الإرهاب الباحث عن الفوضى.
وما يحدث في بعض المجتمعات من مظاهرات أو احتجاجات لاستعادة خدمات الدولة ظاهرة صحية، وعودة إلى الطريق الصحيح، فليس من حق الميليشيات أن تفرض إرادتها على مجتمعات ودول، وما حدث هو درس للتعلم منه، فالتدهور بدأ قبل عقود، ومظاهره مرت أمامنا دون مقاومة وقدمت تنظيرات عن المقاومة والمقاومين، وها نحن نرى كيف يتصرف ما أطلق عليه المقاومون في لبنان وسوريا روحًا طائفية، وكيف أسهموا في إدخال دولهم في دوامة عنف.
هناك طبعًا اختيار أنماط تنمية غير قابلة للاستمرار جعلت أجهزة الدولة تصل إلى مرحلة لا تستطيع فيها الاستمرار في تأمين الموارد الكافية للاستمرار في تقديم الخدمات، وهذا يسهم بدوره في تهيئة المناخ المناسب لجماعات العنف والميليشيات، فعندما تفشل الدولة تطل العصابات برأسها. هذه الاحتجاجات المطلبية التي تتعلق بخدمات بسيطة مثل جمع القمامة، هي أحد مظاهر ملل الناس من طول غياب الدولة، والشعور بالحاجة إلى عودة النظام.
8:2 دقيقه
TT
عودة الدولة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة