الأرجح أن أُناساً بين عموم الناس، في كل المجتمعات ومن كل الثقافات، يداهمهم أحياناً حنين إلى تقليب صفحات «ألبوم» صور رُكِن على أحد أرفف إحدى غرف المنزل، وقد علاه غبار الزمن، وربما نُسي وأُهمِل، فصار منسياً. إنما هل لا يزال ثمة مكان لما يُسمى ألبوم صور، أو طوابع بريد، أم تراه اختفى، بعد كل هذا التطور المذهل لأدوات امتلاك «أرشيف» صور، الشخصي منها والعام، مع مجيء ذكيِّ الهواتف، وما تناسل عنها من وسائل تخزين الذكريات، خصوصاً بينها ذوات الذكاء الصناعي؟ إذا أصابك هكذا حنين، ورحت تُقلب صفحات صور مراحل العمر، فمن المرجح أن تبتسم إذ تصافح عيناك واحدة من لقطات الطفولة، أو الصبا، بكل ما فيهما من براءة وطهر، وربما مرح الشقاوة. لكنك، إن كنتَ كما كل مُتعَب هدّه جهد التأمل والتفكر في مشاوير حياته، ما قبلها وما بعدها، أين أصاب وأين أخطأ، ماذا سيترك وراءه، وماذا سيحمل معه... فسوف تجد نفسك بحاجة لأن تأخذ نَفَساً يملأ رئتيك، بأمل العثور على الجواب الصادق مع النفس.
تلك حالة محض ذاتية، بالطبع، يختلف وقع تأثيرها من فرد إلى آخر. حسناً، ماذا عن تأثير الصورة، حين تكرر ذاتها، تقريباً، فيما هو أبعد، وأهمّ، من الوضع الذاتي للأفراد، أي ذاك الذي يتعلق بمصائر أمم ومجتمعات في أي مكان على سطح الأرض؟ وجدتني أواجه ذلك التساؤل ضُحى نهار أربعاء الأسبوع الماضي، فور الاطلاع على الصفحة الأولى من عدد «الشرق الأوسط»، الصادر ذلك اليوم (17/5/2023) والذي يحمل الرقم (16241)، بعدما صدمتني الصورة التي اختيرت للصفحة -وهذه مهمتها؛ أن تصدم القارئ، ومن هنا حُسن اختيارها، صحافياً- ثم زاد وقع الصدمة مع قراءة العنوان المرافق لها: «أُم مع أبنائها المعاقين في العراء بعد قصف غزة»، وأكمل الشرح المرافق الصدمة فقال إن الأم المنكوبة تجلس وحولها أطفال معاقون أمام أنقاض منزل تهدم بفعل القصف الإسرائيلي للقطاع خلال المواجهات الأخيرة. تُرى، لئن لم تصعق هكذا صورة ضمير العالم المتمدن، ومؤسسات المجتمع المدني، وتلك المعنية بحقوق الإنسان، في كل أنحاء الأرض، أفلا يغدو التساؤل عن مدى صدق السياسات الدولية في إنصاف الشعب الفلسطيني، مبرراً؟ بلى.
أعادتني الصورة ذاتها إلى سنة 1996، حين نشرت «الشرق الأوسط» على صدر الصفحة الأولى لعددها رقم (6549) الصادر يوم السبت الموافق الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) ذلك العام، صورة طفل غزاوي يبدو كما الهيكل العظمي، تحت العنوان التالي «غزة: أطفال على حافة المجاعة»، وتضمّن التعليق الشارح تحتها ما يلي: «طفل من غزة يبلغ من العمر 11 شهراً، كان وزنه عند الولادة 2.5 كيلوغرام، وزنه الآن خمسة كيلوغرامات، الحد الأدنى لوزنه الطبيعي يجب أن يكون ثمانية كيلوغرامات». تلك صورة التقطتها عدسة حيدر غانم، في قسم الأطفال بمستشفى الشفاء بغزة، ضمن تحقيق ميداني كنت أجريه عن أوضاع الناس في غزة تحت الحصار الإسرائيلي، خلال إحدى زياراتي الصحافية للقطاع بتكليف من الأستاذ عثمان العمير، رئيس تحرير «الشرق الأوسط» آنذاك. عنوان الحلقة الأولى من سلسلة التحقيقات تلك قال الآتي: «قبضة الحصار تشتد وحزام الفقر يتمدد... أطفال يعيشون على الخبز والشاي وأمراض سوء التغذية تفترس حديثي الولادة».
27 عاماً تفصل، زمنياً، بين صورتين التُقطتا في زمانين مختلفين، لكنهما تلتقيان في أنهما تعكسان مأساة قطاع غزة خصوصاً، وسوء أوضاع بسطاء عوام شعب فلسطين عموماً. نعم، لن يجادل في كم هو فادح ظلم إسرائيل للشعب الفلسطيني، سوى مَنْ ختم الجهل على قلوبهم، وأعمى الباطل بصيرتهم. بل هو يفوق مجرد الفداحة، لأنه ظلم بغيض قائم على اغتصاب أرض من أهلها الطبيعيين، وهو كريه من منطلق أنه يرتد فيزرع الكره في نفوس أجيال الفلسطينيين ضد مجايليهم الإسرائيليين. كل ذلك واقع موثق، بالتأكيد، إنما في الآن نفسه، آن وقت أن تقف القيادات السياسية للتنظيمات الفلسطينية كلها -ولا أقول القادة المقاومين، أولئك المقيمين على أرضهم، يتوسدون أكفان توقع استشهادهم كل لحظة- وقفة صدق مع النفس، فتسأل: كم أسهمت هي أيضاً، بصراعاتها الناشئة عن تعدد ولاءاتها، في ما آلت إليه أحوال شعبها، وبالتالي حان بالفعل زمن وضع كل الخلافات الفصائلية جانباً، لكي توضع فلسطين قبل غيرها؟ أكثيرٌ هذا، أم أن هكذا تمنٍّ سوف يُرمى فوراً بزعيق التخوين؟ ربما.