نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

صَدَقة إعلامية

دعاني صديقي المذيع إلى برنامجه الإخباري، سألت: وما هو الموضوع؟ قال: يعني عن الوضع الراهن من كافة جوانبه.
قبلت الدعوة دون اقتناع بأهمية الموضوع، وهذه أمور تحدث كثيرًا في زمن الفضائيات المتزاحمة، وشح المواضيع المثيرة، ويعرف الذين يعملون في الإعلام أن هنالك نوعًا من التحايل لإثارة موضوعات تملأ فراغات النشرات الطويلة والبرامج الإخبارية التي تعاني أحيانًا من قلة الأخبار الجديدة، إلا أن الذي لفت نظري وأنا في خضم الحوار مع صديقي المذيع، مداخلته الطويلة التي فهمت منها أن الإعلام انحسر كثيرًا عن القضية الفلسطينية، وأن المذيع الصديق جاهد بتلفيق خبر فلسطيني وضعه في ذيل نشرة الأخبار، ولأن مداخلة المذيع لا بد أن تنتهي بسؤال، قال ولهذا دعوتك للحديث في الأمر، ومن قبيل اللياقة شكرته على مبادرته وقدر ما استطعت أجبت عن السؤال، لم أقتنع بإجابتي، ذلك إن انحسار الإعلام عن قضية بوزن القضية الفلسطينية، لا يجاب عنه في دقيقة أو اثنتين، بقدر ما يحتاج إلى بحث تفصيلي وموسع عنوانه متى ينحسر الإعلام؟ ولماذا؟ وكيف؟
الاستنتاج الذي خرجت به هو أن المذيع الذي تربى على فكرة أن القضية الفلسطينية هي قضية مركزية، وتعود قراءة الأخبار الفلسطينية في صدر النشرات طيلة عقود من الزمن، أقحم القضية بفعل ذلك كما لو أنه يقدم صَدَقة إعلامية لقضية منسية، وبقدر ما هو مؤلم هذا المآل بقدر ما هو موضوعي وواقعي، فأين الحدث الذي يفرض نفسه على الإعلام؟ وأين نجد خبرًا يجعل قضية ما قيد التداول والاهتمام؟
الأخبار الفلسطينية التي كانت في المقدمة، بل إن منابر إعلامية ضخمة تأسست واكتسبت أهميتها وجمهورها من الخبر الفلسطيني لم تعد موجودة ولا منافسة مع الأخبار الأخرى، ولكي يهتم الإعلام بخبر فلسطيني ولو في ذيل نشرة الأخبار فلا بد من حرب كتلك التي وقعت في غزة مؤخرًا، وهذا أمر لا يمكن أن يحدث بانتظام، أو حرق أناس نائمين في بيوتهم وهذا خبر وإن كان بالغ الأهمية إلا أنه إلى جانب عداد الموت الذي يجري بلا هوادة في عالمنا العربي يبدو ضئيل الشأن، إلا أن هنالك ظاهرة تستحق من الفلسطينيين قبل غيرهم دراستها ومعالجتها، وهي تحول القضية المركزية الواحدة والكبرى إلى شظايا متناثرة من قضايا جزئية صارت تتخذ طابع القضايا المحلية، ولو ألقينا نظرة على واقع القضية الفلسطينية الآن، لأصابتنا حيرة ونحن نفتش على.. «من أين نبدأ؟» هل من الوضع الداخلي الفلسطيني الذي عنوانه عدة أزمات لا تحظى بأي اهتمام لا على صعيد الإعلام ولا على صعيد السياسة، فأي جاذبية لأخبار الانقسام والمساجلات العدائية التي لا تتوقف بين من يفترض أنهم أصحاب قضية واحدة؟ ومن يهتم بالأزمات الاقتصادية المتوالدة التي لا حل لها إلا بطرق أبواب المحسنين؟ ومن يهتم بإجراءات وكالة غوث اللاجئين التي قد تضع آلاف الطلاب والمعلمين في بيوتهم لشح الاعتمادات المالية؟ ومن يهتم لارتفاع نسبة من هم دون خط الفقر في بلاد ما جاعت يومًا رغم نكبتها؟ ثم من يهتم حين يلوذ الفلسطينيون بجامعة الدول العربية لعلها تخلصهم من أذى الاحتلال وجرائمه واستيطانه وحتى من الكلاب المسعورة التي تنهش الجسد الفلسطيني بلا هوادة؟ ومن يهتم بصرخات الفلسطينيين وتهديدهم بالذهاب إلى مجلس الأمن الموصدة أبوابه أمامهم بأقفال أميركية فولاذية؟ ومن يهتم أخيرًا بتراكم الشكاوى الموجهة إلى محكمة الجنايات والتي صارت بحاجة إلى حاسوب ضخم لمعرفة عددها دون التأكد من جدواها؟ كل هذا يجيب عن سؤال صديقي المذيع الذي منحني صَدَقة إعلامية يشكر عليها، والصدقات لا تحل مشكلة ولا تصنع ثروة.
ليس غير الفلسطينيين من يفكك هذه المعضلة ومن يلملم شظايا قضية كانت الأهم في المنطقة والعالم فما لا ينجز على أرضها لن ينجز في أي مكان آخر.