عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

اختيار الزعيم

التنافس بين عدد من أشهر نواب حزب العمال المعارض في مجلس العموم على زعامة ثاني أكبر أحزاب بريطانيا تاريخيا يحتل مساحات شاسعة على صفحات الجرائد؛ ويشغل مساحة زمنية معتبرة من أوقات بث شبكات التلفزيون والإذاعة وبرامج التوك شو والمخابرات التليفونية التي يجد رجل السياسة فيها نفسه محل استجواب من المذيع ومن المستمعين عبر مكالماتهم.
زعيم الحزب خلال البرلمان السابق، إدوارد ميليباند، استقال صبيحة نتائج الانتخابات منذ ثلاثة أشهر؛ متحملا مسؤولية الهزيمة الساحقة التي مني بها الحزب في انتخابات هذا العام. الملاحظ أن أعضاء الحزب والملايين الذين صوتوا له لم يخرجوا في مظاهرات تطالبه بالبقاء وتصيح «لا تتنحَ.. لا تتنحَ».
يتنافس على زعامة حزب العمال عدد من المرشحين: وزيران سابقان في حكومتي توني بلير (1997 - 2007) وغوردن براون (2007 - 2010)، وفي حكومتي الظل - مجلس وزراء حزب المعارضة كبديل للحكومة.
أندرو بيرهام كان وزيرا للصحة في حكومة العمال بزعامة براون، ووزير الصحة في حكومة الظل بزعامة ميليباند (2010 - مستمرة) ولا يزال في منصبه في البرلمان الحالي. وبيرهام محسوب على يسار وسط التيار البليري في الحزب، أي مجموعة براون.
كان بلير اتجه بالحزب من اشتراكية اليسار المعادية للملكية الخاصة والاستثمار الرأسمالي إلى يمين الوسط. كانت المناورة حيلة ماكرة من بلير لتأكده أن الناخب العمالي التقليدي لن يتخلى عن التصويت للحزب، بينما يكسب أصواتا من الطبقة الوسطى الجديدة التي صعدت من صفوف الطبقة العاملة بفضل سياسات السيدة ثاتشر التي سهلت منح ملكية العقار وأسهم الشركات الكبرى والمرافق لذوي الدخول المحدودة وبالتالي أصبح لديهم ثروات صغيرة كانت طبقتهم محرومة منها تاريخيا؛ بينما ثقافتهم الاجتماعية في بلد لا يزال طبقيا جعلتهم متوجسين من المحافظين وهم «العدو الطبقي» الذي شب آباؤهم وأجدادهم يمقتونه كصاحب عمل أو صاحب أرض أو صاحب منجم.
ينافس بيرهام نائبة شابة جديدة هي النجم الصاعد للتيار البليري، إليزابيث كيندال.
في الرابعة والأربعين، أصغر المرشحين، وهو برلمانها الثاني (دخلت البرلمان عام 2010 عندما تراجعت أصوات العمال بزعامة براون الذي عاد بالحزب من الوسط البليري إلى اليسار القريب من الاشتراكية التقليدية). ورأت كيندال، كمرشحة التيار البليري، أن الانسحاب يسارا إلى الاشتراكية بعيدا عن وسطية بلير كان سببا في تراجع العمال في انتخابات 2010 والتوغل في أرض اليسار، واحتضان النقابات العمالية المتشددة (وهي مصدر تمويل ضخم للعمال)، يراه البليريون سببا رئيسيا في نزيف الأصوات الذي أدى لتفويت فرصتهم في انتخابات 2015. كيندال وزيرة لكبار السن ورعاية الأسرة في حكومة الظل. برنامجها يهدف لطمأنة رجال الأعمال والمستثمرين والطبقة الجديدة التي [منجنقت] العمال للحكم عام 1997 لكن أفزعهم البرنامج الاشتراكي للعمال بفرض ضرائب جديدة على العقار.
اسمها وحده رأسمال ضخم بوقعه العاطفي في اللاشعور الشعبي لفرط حبهم في الملكة. كما أن عظمة بريطانيا وبداية توسعها التجاري بدأ في عهد إليزابيث الأولى (1533 - 1603) أما الانتصار في الحرب الباردة وما تبعه من رخاء ونمو اقتصادي فيرتبط بعهد الملكة الحالية إليزابيث الثانية.
المرشحة الثالثة إيفيت كووبر ابنة 47 عاما عضو برلمان منذ 1997 (دخلت مع غزو نسائي سمتهن الصحافة Blair Babes أو حبوبات بلير) ووزيرة للخزانة في حكومة براون، ووزيرة داخلية حكومة الظل منذ 2010.
المتوقع تشابه برنامجها مع برنامج بيرهام، فكلاهما من الإرث البليري، لكنها أكثر ميلا للتيار البراوني منه البليري. وهي أكثر دهاء سياسيا من منافستها كيندال وتتقن فن التلاعب بالعبارات المنمقة وبعد مقابلة نصف ساعة يستحيل تصنيفها يسارا أو يمينا أو وسطا.
المرشح الرابع للقب «زعيم معارضة صاحبة الجلالة» مفاجأة جذبت الصحافة بأنواعها الثلاثة (أو الأربعة إذا أدخلنا الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي) مرشح من السياسيين اليساريين الباقين من الحقبة الجيوراستية (زمن الديناصورات).
نائب دائرة ايلزنجتون شمال لندن، المدججة بالمثقفين اليساريين المتمسكين بالاشتراكية الأصولية كما وصفها ماركس، وانغلز، ولينين، على جميع طبقات الشعب ما عدا أنفسهم (أبناء الميسورين خريجي المدارس الخاصة وجامعتي أكسفورد وكمبردج؛ كبار محرري «الغارديان» و«بي بي سي»، لا يقل مسكن أي منهم عن مليوني جنيه إسترليني بجانب فيلات العطلة في إيطاليا وفرنسا). برنامج جيرمي كوربين هو التأميمات وفرض ضرائب على الشركات الكبرى والبنوك ووقف إنتاج الغاز الصخري. تفوقه في الاستطلاعات دفع بلير للتحذير علنا من أن زعامته للحزب ستسبب نزيفا في الأصوات في الانتخابات القادمة عام 2020.
وقد يتساءل القراء العرب: لماذا الاهتمام الكبير بانتخابات زعامة حزب ليس في الحكومة ولا انتخابات قبل خمس سنوات؟
السبب النظام البرلماني لتغير الحكومة بالانتخابات. الشعب ينتخب 650 نائبا عن 650 دائرة وليس قوائم حزبية على مستوى المملكة المتحدة. ورئيس الوزراء منتخب مرتين (اعتباريا لا فعليا). كنائب عن دائرته الانتخابية حيث يقابل الناخبين أسبوعيا؛ ومرة كزعيم لحزب المحافظين.. والأمر ينطبق على كل نائب. بعكس البرلمانات العربية والأوروبية كنصف دوائر، فإن مجلس العموم في شكل مستطيل؛ وصفوف المقاعد متقابلة كخصمين أو محاميين يترافعان ضد بعضهما البعض في المحكمة.
نواب الحكومة على يمين منصة الرئيس ونواب المعارضة على يسارها. مقاعد مستطيلة كل منها يعرف بـ«بنش» لا يفصلهما سوى ثلاثة أمتار. هناك خط أحمر فاصل على بساط الأرضية أمام كل بنش والمسافة بين الخطين ياردتان وقدمان (متران ونصف) تقاليد قديمة لمسافة أقل من امتداد نصلي سيفين حقنا للدماء (سيف الجنتلمان rapier طول نصله 39 بوصة). ومن هنا جاء تعبير toe the line «لا يتجاوز الخط الأحمر» رغم أن النواب ممنوعون من حمل السلاح داخل القاعة منذ بضعة قرون.
يحتل «البنش» الأمامي على اليمين وزراء الحكومة، وفي مقابله كتلة المعارضة على البنش الأمامي حكومة الظل.
وعندما تقدم الحكومة مشروع الميزانية ليصوت عليه النواب (دائما يقبله المجلس لأن نواب الحكومة هم الأغلبية) ينشر حزب المعارضة مشروع ميزانية بديلة. والأمر مماثل مع قوانين التعليم والإسكان وبقية البرامج. الصحافة (طواعية بلا إجبار فليس هناك قوانين لتنظيم الصحافة) تناقش وزراء حكومة الظل في برامجها وتنشرها أو تبثها على الشعب ليقرر بنفسه أي البرامج أفضل.
ولذا فانتخاب زعيم لحزب المعارضة، يعني انتخاب شخص قد يصبح بالفعل رئيس (أو رئيسة فهناك مرشحتان لزعامة العمال) وزراء البلاد في الانتخابات القادمة أي البديل المطروح أمام الشعب عن رئيس حكومته الحالية.