نديم قطيش
إعلامي لبناني
TT

كتاب بومبيو يعيد الاعتبار للسياسة

صورة مذهلة في تفاصيلها، عن حجم التنافر السياسي والفكري بين إداراتي دونالد ترمب وباراك أوباما، يرسمها في كتابه الجديد، مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركية الأسبق، ورئيس «سي آي إيه» الأسبق، والمسؤول الوحيد الذي أكمل السنوات الأربع في إدارة الرئيس دونالد ترمب من دون أن يستقيل أو يُطرد.
ولئن يذهب معارضو أوباما إلى حد اعتبار نهج ولايتيه، دراسة حالة (case study)، بشأن مضار السياسة الخارجية المثالية، لا سيما تجاه إيران، والإسلام السياسي عامة، يختصر كتاب بومبيو خيارات أوباما، لا سيما فكرته عن إمكانية تحويل الإسلاميين المتشددين إلى شركاء مسؤولين في السلام، أو سعيه لتحويل نظام طهران إلى حليف، بأنها سياسة خارجية مبنية على أوهام «بعض المثقفين» في إدارته لا أكثر.
في شقه الإيراني يقدم الكتاب تفنيداً مفصلاً للاتفاق النووي، واصفاً إياه بأنه «خطأ استراتيجي ذو أبعاد ملحمية»؛ بسبب ما وفره من عائدات لنظام الملالي، استغلت لقمع الشعب الإيراني، والمضي في بناء ترسانة الصواريخ الباليستية، وتمويل الجماعات الإرهابية، مثل «حزب الله» والحوثيين في اليمن، وغيرهما.
ويوجّه بومبيو إلى إدارة أوباما اتهامات جازمة وقاسية، كقوله، إن شروعها منذ عام 2013 في تخفيف كاسح للعقوبات المفروضة على إيران مقابل مجرد تأجيل تقدمها النووي، ثم إبرامها عام 2015، صفقة نووية لا تتجاوز كونها إعلان نوايا سياسية، يعدّ «تضحية بالأمن الأميركي والإسرائيلي، في مقابل كيس تافه من حبات الفول السحرية من إيران»!
وفي مكان آخر يصف بومبيو الموافقة على بنية الاتفاق النووي، بما ستتيحه خلال فترة تتراوح بين 10 و15 سنة من مسارات شرعية للبرنامج النووي الإيراني، بأنها خيانة للأمن القومي الأميركي.
أما من ينسبون سياسات ترمب ضد إيران، لا سيما قراره الاستثنائي بقتل قاسم سليماني، إلى طبيعته الانفعالية والاستعراضية، سيجدون في الكتاب رسماً دقيقاً لنهج متكامل اختاره دونالد ترمب لمعالجة «المشكلة الإيرانية»، على نحو يخالف سياسياً وفلسفياً وعملياً خيارات سلفه.
يقول بومبيو، إن ترمب، كما الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، كان مستعداً للتحدث مع خصوم مثل كيم جونغ أون في كوريا الشمالية والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، «لكنهم كانوا يعلمون دائماً أن الولايات المتحدة لن تتردد في إخراج المطرقة عند الضرورة».
من الكتاب تخرج صورة مختلفة لترمب. فهو الرئيس العازم على استرداد قوة الردع الأميركية، كما يوحي قراره بتخصيص 700 مليار دولار لموازنة الدفاع الأميركي عام 2017، لكنه في الوقت نفسه الرجل الملتزم بعدم التسرع في خوض الحروب، كمثل تمهله في الرد على إسقاط إيران الطائرة المسيّرة الحديثة «آر كيو - 4 غلوبال هوك» في يونيو (حزيران) 2019، بصاروخ أرض جو، وهي في الأجواء المحاذية للمناطق السيادية الإيرانية عند مضيق هرمز.
ولنفي صفات التهور عن رئيسه، يقول بومبيو، إن ترمب «فهم شرور النظام الإيراني، لكنه فهم ضعفه أيضاً». ويعدّ هذا الفهم المركب الذي قاد خيارات ترمب الإيرانية هو الفيصل بين نهجه ونهج الآخرين، حتى ممن كانوا في عداد إدارته «كوزير الدفاع جيمس ماتيس، وآخرين في فريق الأمن القومي للرئيس أو بعض البيروقراطية في البنتاغون».
يحضر قرار قتل قاسم سليماني في العراق كأحد أبرز قرارات السياسة الخارجية لإدارة ترمب، والذي يتباهى بومبيو بأنه من مهندسيه، ما لم يكن مهندسه الأول. ولكن الأهم، أن هذا القرار يُعرض في الكتاب ضمن سياق سياسي تفصيلي، لا كما يتم تصويره كرد فعل انفعالي واستعراضي غير آبه بالتبعات.
بحسب بومبيو، اتسمت سياسة إدارة ترمب تجاه إيران بموقف واضح وحاسم ضد النظام ووكلائه، لا سيما «فيلق القدس» وزعيمه سليماني. وكان هذا التحول في السياسة الأميركية، بعد ثماني سنوات من سياسات استرضاء الملالي التي مارستها إدارة أوباما، رداً ضرورياً على التهديد الطويل الأمد للإرهاب الذي ترعاه الدولة الإيرانية، والذي يشمل أيضاً التحالف الموضوعي مع تنظيم «القاعدة».
بين رسالة بعثها بومبيو إلى سليماني نحو العام 2017، ولم يتلقَ رداً عليها، وبين قرار الاغتيال يوم 3 يناير (كانون الثاني) 2020، يرتسم مسار منازلة بين واشنطن والجنرال الإيراني، اتخذت أكثر ملامحها حدة بعد خروج ترمب من الاتفاق النووي عام 2018 وبدء استراتيجية «الضغط الأقصى».
الرسالة لسليماني، كانت إبلاغاً واضحاً له بأن الولايات المتحدة ستحاسبه وإيران على أي هجمات على المصالح الأميركية في العراق، وبأسلوب مباشر «يمثل خروجاً حاداً عن الوضع الراهن في الإدارات السابقة، حيث كانت بيانات المساءلة البلا أسنان شائعة جداً». أراد ترمب أن يُشعِر الإيرانيين أن «أيام الانتقام الضعيف قد ولّت».
في المقابل، ظل سليماني يختبر حدود ما يمكنه القيام به. في مايو (أيار) 2019، أغلقت واشنطن القنصلية الأميركية في البصرة؛ بسبب مخاوف أمنية بعد أن أطلق إرهابيون من الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران صواريخ على المنشأة.
وفي يونيو (حزيران) 2019، أسقطت إيران المسيّرة الأميركية، التي أشرنا إليها قبلاً، ومثلت أعلى مستويات التحدي العسكري للهيبة الأميركية.
في ديسمبر (كانون الأول)، ارتكب سليماني الخطأ القاتل، حين قُتل متعهد أميركي، نتيجة قصف صاروخي تعرضت له قاعدة «كي وان» بالقرب من مدينة كركوك، بالإضافة إلى إصابة عدد من العسكريين الأميركيين والعراقيين، وقد كانت القواعد والمنشآت الأميركية عرضة لعدد من الهجمات الصاروخية منذ خريف 2019. قتل سليماني بعدها بخمسة أيام.
من المريع أن أحداً ممن عارضوا التصعيد مع إيران لم يراجع مواقفه، أكان تلك التي سبقت اغتيال سليماني أو تبعته، والتي صبَّت كلها في استنتاج مفاده أن استعمال القوة مع إيران سيشعل الشرق الأوسط، أو ينهى نفوذ واشنطن في العراق والشرق الأوسط.
بعد ثلاث سنوات على مقتله، يبدو الشرق الأوسط أبعد ما يكون عن السيناريوهات التي رسمها البعض قبل اغتيال سليماني وبعده.
يضع بومبيو إصبعه على جرح كبير في تعامل أميركا مع نفسها. بحسبه، تكمن المشكلة في عقلية بيروقراطية وسياسية قديمة تعتبر أن «الولايات المتحدة يجب أن تكون أكثر خوفاً مما يمكن أن يفعله الخصوم بها، لا العكس»!