إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

محاربون فرنسيون زنوج

لا بدَّ في البداية من التوضيح بأنَّ «زنجي» مفردة لا تنطوي على سوء. وهي ليست الترجمة لصفة «عبد»، التي كان بعضهم يطلقها على أبناء أفريقيا السوداء في مراحل مظلمة من التاريخ. وهناك مفكرون كبار من أمثال الشاعر والأديب سنغور، أول رئيس للسنغال بعد الاستقلال، جعلوا من «الزنوجة» فلسفة نقدية مناهضة للاستعمار.
يلفت النظر عنوان عريض في صحيفة فرنسية: «ماذا لو كان الجندي المجهول الراقد تحت قوس النصر في باريس محارباً أسودَ؟». ومناسبة السؤال فيلم نزل إلى صالات العرض، هذا الأسبوع، من إنتاج النجم الفرنسي المولد، السنغالي الأصل، عمر سي. عشر سنوات من التفكير والبحث والطموح انتهت بخروج الفيلم إلى النور بتوقيع المخرج ماتيو فادبييه. فيلم صادم بعنوان «Tirailleurs» أي المناوشون. شبان أفارقة جرى انتزاعهم عنوة من قراهم البعيدة، أواخر القرن التاسع عشر، ليشكلوا فيلقاً يحارب في صفوف الجيش الفرنسي.
بدأ الأمرُ في السنغال. ثم توسع التجنيد إلى مناطق أخرى من المستعمرات، غرب أفريقيا ووسطها، ليبلغ العدد 200 ألف مقاتل في الحرب العالمية الأولى. مات أغلبُهم ولم يُصلِّ عليهم أحد. بقي الفيلق قائماً وشارك مجندون جددٌ في الحرب العالمية الثانية، وفي حروب ما يسمونها الهند الصينية. من نجا منهم عومل بمهانة لا كبطل. نال تقاعداً بالملاليم، بينما حصل رفيقه الأبيض على تقاعد مجزٍ. مأساة جرى التسترُ عليها مائة عام قبل أن يتطرَّقَ إليها المؤرخون.
يؤدي عمر سي في الفيلم دور بكاري ديالو. أبٌ ملتاع يلتحق بالجيش الفرنسي ليكون بجوار ولده الذي انتزعوه من ريفه وأرسلوه إلى أتون الحرب الكبرى. أراد بكاري أن يحمي الولد ابن السابعة عشرة ويعود به سالماً إلى أمه. فيلم عنيف حزين، يجري الحوار فيه بلغة قبائل محلية، يخرج منه المشاهدون مصدومين دامعي الأعين. مرآة تعكس جانباً من التاريخ البشع للاستعمار. موضوع جريء لم تتطرَّق له السينما من قبل. اهتمت به وسائل الإعلام كافة. كل من وجهة نظره وبحسب مموليه. راح عمر سي يتنقل من برنامج تلفزيوني لآخر، ومن نشرة أخبار صباحية لأخرى مسائية. قال في مؤتمر صحافي: «هذه القصة تربط بين السنغال وفرنسا. إنها قصتي وهي تعبّر عن هويتي».
ثم «كَفَرَ» عمر سي. قامت القيامة على الممثل المحبوب لأنه أبدى رأياً مخالفاً للسائد. قال لصحيفة «الباريزيان» إنه يأسف لأن الرأي العام الفرنسي، والغربي عموماً، يعلن قلقه من الحرب في أوكرانيا ويتجاهل الحروب في أفريقيا. هل يعني هذا أن ما يجري في القارة السوداء يمسّ الفرنسيين بقدر أقلّ؟ لم تكن حرب أوكرانيا اكتشافاً بالنسبة له. يقول: «صدمتني في طفولتي الحرب بين العراق وإيران. ولي عائلة في أفريقيا، حيث تخلّف الحروب بشراً يعانون وعائلات مفككة وآباءً يفقدون أبناءهم وأطفالاً يصبحون يتامى».
وهي ليست مأساة أفريقيا السوداء وحدها. ففي القاهرة نقرأ عن كتاب مترجم للدكتور محمد أبو الغار، يصدر قريباً عن دار «الشروق». عنوانه: «الفيلق المصري». يحكي عن اختطاف 530 ألف فلاح وربطهم بالحبال وإلحاقهم بفيلق مصاحب للقوات البريطانية في الحرب الأولى. قُتل منهم 50 ألفاً حين كان تعداد مصر 12 مليوناً فحسب.
فرنسا تداركت جريمتها في وقت متأخر. ساوت المرتبات التقاعدية لمجنديها السود برفاقهم البيض. كم بقي منهم على قيد الحياة ليفرح بالإنصاف؟ المعمر الذي شاهدناه في التلفزيون قال إن بلادهم، بعد الاستقلال، رفضت استقبالهم. أما فرنسا فقد تجاهلتهم ورفضت منح أبنائهم وأحفادهم تأشيرات الدخول لأراضيها. ماذا لو كان الجندي الفرنسي المجهول أفريقياً؟