حنا صالح
كاتب لبناني
TT

رجل العام... لبنانياً!

مع انسداد أفق المسارات السياسية والاقتصادية والمالية، يستقبل المواطن اللبناني العام الجديد على وقع تسارع انهيار المتبقي من مؤسسات الدولة وتقلص مريع للخدمات العامة؛ عتمة شاملة ومياه ملوثة واستشفاء محصور بنخبة ثرية، فيما التعليم، الميزة التفاضلية للبنانيين، ينهار مع تساوي التسرب من المدرسة الرسمية بالملتحقين بها! أما مئات ألوف الأسر التي صودرت ودائعها غصباً عن إرادتها فممنوع عليها الادعاء على الناهبين أمام القضاء، وتبدو «عيدية» اللبنانيين اختراق سعر صرف الدولار سقف الـ50 ألف ليرة، ليشتد العوز مع انعدام قدرة عشرات ألوف الأسر على تأمين الحد الأدنى من الوجبات الغذائية. ووحدها تحويلات المغتربين (نحو 7 مليارات دولار)، حالت دون تحول المجاعة إلى ظاهرة عامة، لكن ازدياداً ملحوظاً طرأ على نسبة اللبنانيين الذين انضموا إلى شعوب «قوارب الموت»!
توازياً يبدو رجل العام هزل المتسلطين الذين يتنافسون على تقديم لمحات تضليلية من الكوميديا السوداء! قصور من الرمال تبنى على اتصالات سفراء أو لقاءات في الخارج، نزولاً إلى تعظيم الأوهام ربطاً باتصالات داخلية لشراء الوقت. فيما المطلوب أن يلتئم المجلس النيابي التزاماً بالدستور، ولا ترفع الجلسة إلا بعد انتخاب رئيس للجمهورية، لأن هذه المهمة أولى أولويات النواب! لذا يروجون صورة زاهية عن «اتصالات ومشاورات على أكثر من خط»، والهدف «رسم خريطة طريقٍ لأرضية مشتركة لبناء تصورٍ رئاسي توافقي يلاقي الحراك الخارجي» (...) لأن «مقومات نجاح أي حلٍ داخلي لا تكتمل دون تغطية عربية ودولية». ولمزيد من تضليل مواطنين طحنهم فساد المتسلطين، يروجون روايات من أن المرتقب «لن يكون محصوراً بالرئاسة، بل تفاهمات ستشمل أيضاً الحكومة والإصلاح والغاز والنفط (لم يتم بعد أي استكشاف)، إلى استكمال تنفيذ دستور الطائف المعلق والمستبدل بالفتاوى والبدع»!
وتصل الكوميديا إلى الذروة عندما يختار ميشال عون، رئيس «عهد جهنم»، العودة إلى المشهد من باب رئاسة تياره ليعلن بعد 6 سنواتٍ عجافٍ في الرئاسة: «كشفنا مكامن الضعف، كشفنا العاطلين المستلمين للدولة. هلق بدنا نكمل الشغل اللي عملناه بالأول» (...) الإعلان عن «كشف» هذا «الإنجاز»، يليق برجل العام، الذي يعيش غربة عن الواقع! فإذا كان الاكتشاف قد حدث، فما كانت النتيجة؟ وماذا كان يفعل طيلة إقامته في القصر؟ ويتابع في حالة إنكار غير مسبوقة: «إذا ما تغيرت الزمرة الحاكمة ما في وطن بينبني... كل الدولة بدها إعادة بناء... ما بقى في الواحد يتكل ع دولته... بدنا رئيس يحمل الصدمة ويكمل الطريق»!
وأي طريقٍ بعد، وقد وفي بوعده إرسال اللبنانيين إلى الجحيم؟ إنه إعلان بائن عن الطلاق مع الوعي، فعن أي زمرة يتحدث؟ وهل من بينهم من أوصله إلى الرئاسة شركاء حكومات عهده، وشركائه في حكومات ما بعد العام 2009؟ وهل تطول الزمرة «حزب الله» شريكه في «تفاهم» مارمخايل الذي صادر الدستور وفرض «قوانين» السلاح والدويلة؟ وكذلك حليف الحزب نبيه بري الرئيس الدائم للبرلمان الذي «قونن الفساد» وشرع الحصانات والإفلات من العقاب؟ وهل من بين الزمرة سمير جعجع شريكه في «مشهدية معراب»؟ وكذلك الحريري الشريك الأبرز في التسوية المشينة عام 2016، التي أرفقت بتحاصص مقدرات البلد لتعجل الانفجار، إلى بقية أطراف نظام المحاصصة الشركاء في تغطية اختطاف «حزب الله» للدولة، فيما أدى الشغف بالكرسي إلى تسليم الرئاسة الفعلية إلى حسن نصر الله، لضمان التوريث العائلي للرئاسة!
أما رياض سلامة، رجل أعوام كل العهود منذ 29 سنة، فهو قمة الكوميديا السوداء. إنه في القمة رغم مطاردة القضاء الأوروبي له والاتهامات التي ارتبط اسمه بها؛ غسل أموال واختلاس وتهريب وفساد. وعنه قال «البنكرجي» نجيب ميقاتي: «ما بتغير الضابط أثناء الحرب!» وقيل؛ بدونه سيصل الدولار إلى 50 ألف ليرة، ومعه لن تكون الـ50 ألفاً إلا محطة في المسار الاحتيالي، الذي شبّهه البنك الدولي بمخطط «بونزي»!
وقع الاختيار عليه في بداية إطلاق نظام المحاصصة الطائفي، وقيل له؛ مسؤوليتك تثبيت سعر الصرف وتأمين عجز الموازنة، وافعل ما شئت! فكان الذراع المالية لكارتلٍ مصرفي سياسي ناهب، جمع رموز ميليشيات الحرب والمال، فنفّذ سياسات وضعت لبنان على قائمة أسوأ 3 انهيارات مالية في العالم في آخر 150 سنة! وتسببت السياسات المالية التي نفذها، في جعل أكثرية اللبنانيين على خط الفقر، لكنه «خيّط» عمليات تهريب الأموال للنافذين، وهدر المال على دعمٍ مزعوم، وصولاً إلى بدعة منصة «صيرفة» ليوفر الأموال للمحتكرين ولدعم ميليشيا «حزب الله» وتغول «الاقتصاد الموازي»، إلى تمويل ميليشيات نظام الأسد!
عرّت «ثورة تشرين» دوره، وكشف القضاء الأوروبي فساده، لكنه استمر طليقاً فوق المحاسبة، وعصياً على المساءلة، حتى عندما تسببت سياسة «التعاميم» بقطع الأوكسجين عن المرضى في غرف العناية الفائقة! إنه رجل العام الذي ابتدع مخطط السطو على الودائع، ليفرض على المودعين «هيركات» قسري من خارج القانون بلغ 80 في المائة، وهندس من خلال «صيرفة» تحول نحو 500 ألف لبناني إلى صرافين ومضاربين على الليرة، في سياق مخطط، صرف اهتمام أكثرية اللبنانيين عمّا يشهده البلد من إمعانٍ في تهديم المؤسسات و«تشليع» السلطة، في سياق مشروع تغيير لبنان بضرب نسيجه البشري واقتلاعه من موقعه ودوره!
تحولت مآسي لبنان إلى كرة ثلج مندفعة بدون كوابح، نتيجة تحاصص طائفي لنظامٍ تمَّ تركيبه على قاعدة الانقلاب على الدستور، فحالت مصالح المتسلطين والمشروع الخارجي الإمبراطوري الموكل تنفيذه لـ«حزب الله»، وقبله مصالح الاحتلال السوري، دون بناء الدولة الحديثة التي ينشدها اللبنانيون. لذلك الشغور الرئاسي، المتكرر منذ العام 2008، كما الفراغ الدائم في السلطة، والتمادي في تجويف المؤسسات وتفريغها من دورها، ما كان ممكناً لولا معادلة استبدال الدستور بـ«توافق» الطوائف الكبرى، الذي جعل الدولة؛ رئاسة وسلطة وقضاء وأمناً وشعباً وأرضاً «وقف» في خدمة مصالح الزعامات الطائفية الذين أحلوا الأتباع بمراكز السلطة والإدارة، وحفظوا المصالح الفئوية لـ«معارضة» النظام و«موالاته»!
رجل العام مآسٍ من صنع متسلطين، وضعوا اللبنانيين بين مطرقة فريقٍ خائف على امتيازاته، وبصماته واضحة في «قوننة الفساد»، والتوصيف هو لـفؤاد السنيورة الذي قال: «إن الفساد مشرعٌ بالقانون»! وبين سندان التعطيل للتهديم، سمة سياسات «حزب الله» وأتباعه، بما يخدم مشروعه للبنان آخر مستتبع لنظام الولي الفقيه، ولا يسقط الاستفادة القصوى مما يتيحه نظام المحاصصة من إمكانات ومقدرات لترسيخ بناء الدويلة!
ولأنه ليس سراً أن المتسلطين بصدد ورشة التوافق على رئيس، سيكمل تبعاً لموازين القوى مسار نحر الجمهورية واستتباع البلد! لذا الوقت من ذهب، والمهمة الملحة؛ التنظيم السياسي حول قيم «17 تشرين» لاستعادة الدولة المخطوفة وتحرير القرار. والمسار الوحيد بلورة «الكتلة التاريخية» التي يعول عليها لتقديم البديل القادر على استعادة ثقة الناس كي يكون ممكناً إعادتهم إلى الفعل السياسي!