رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

وقف النار وإمكانيات السلام والعدالة

أوقف ريتشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني، خلال اجتماعه بدول شمال أوروبا والبلطيق – الشائعات التي ترددت عن نيته إيقاف الدعم لأوكرانيا، حين أعلن عن دعمٍ بثلاثمائة مليون باوند. لكنّ صمود رئيس الوزراء البريطاني، قابلته بداية تفكير أميركية في كيفية إيقاف الحرب والمضي للتفاوض. قال الأميركيون أولاً مثلما قال البريطانيون، إنّ الاتصالات الاستخبارية والعسكرية مع روسيا لم تتوقف. وقالوا ثانياً، إنهم حذّروا رئيس الأركان الروسي غيراسيموف الذي كان متوجهاً للجبهة الأمامية من زيارة قواته في تلك الناحية؛ لأن الأوكرانيين يمكن أن يحاولوا اغتياله! ثم جاءت خطة هنري كيسنجر الكاملة للعرض على الطرفين الروسي والأوكراني. وتقضي الخطة المقترحة وقفاً للنار يوافق عليه الطرفان ويمضيان للتفاوض، وعند حصول ذلك تبقى أوكرانيا في خاركيف وخيرسون، وتنسحب روسيا من زابوروحيا ومنطقة أخرى، وتبقى شبه جزيرة القرم على طاولة المفاوضات كما المقاطعتان اللتان احتلتهما روسيا. وربما لم يتشاور كيسنجر مع إدارة بايدن. لكنه ليس بعيداً عن تقاليد الاطلاع والنقاش العلني في المجتمع السياسي الأميركي، وفي السياسة الخارجية أكثر من الداخلية. ومع أنّ كيسنجر من مفكري «السياسات الواقعية» كما يسميها، فهو يزعم في كتابه الأخير: القادة (2021) أنه قد يدركُ بالتفاوض ما لا يُدرك بالحرب! وهذا كلامٌ يمكن أن يُرضي أوكرانيا، وفي الوقت نفسه لا يُغضب روسيا. كيسنجر يخشى - وهذا عجيب - من تفكك روسيا والفوضى النووية؛ ولذلك لا بد من وقف الحرب. وهذا الكلام موجَّهٌ طبعاً للساسة الأميركيين الداعمين الرئيسيين لأوكرانيا. وهذا يعني طبعاً أنه لا بد من تخفيف الضغط على موسكو والإبقاء عليها باعتبارها قوة «تستطيع أن تمارس السياسة الاستراتيجية». ويعني ذلك مرة ثالثة، أنه كما كان ضرورياً في السبعينات التوجه لاستنهاض الصين للوقوف في وجه روسيا السوفياتية، وكان ذلك تفكير كيسنجر؛ فتفكيره الآن أنه ينبغي الإبقاء على اعتبار روسيا قوة استراتيجية من أجل عدم تفرد الصين (رغم تحالفهما)، ولكي لا يزداد الخطر على أوروبا إن لم يكن من بوتين النووي، فمن الفوضى التي ستعقب السقوط(!).
ليس من همّ كيسنجر بالطبع إرضاء أوكرانيا. لكنه يخاطب المجتمع السياسي الأميركي لكي لا تسقط الولايات المتحدة في الوهدة التي سقطت فيها في الحرب الكورية وحرب فيتنام وحروب العراق وأفغانستان. وهكذا، فللخطر جوانب عدة يتصل واحدٌ منها فقط بأوكرانيا، وتتصل العوامل الأخرى بالمصالح الأميركية الكبرى، وبالقارة العجوز أوروبا. ففضلاً عن أنّ أوروبا تتغير كثيراً لصالح وضع حسابات لإمكان المواجهة مع روسيا (؟) أو تنمية قواتها الأطلسية وغير الأطلسية للردع، يحسب العديد من المراقبين حسابات كبيرة لما يمكن أن يقدِم عليه بوتين. فالتطور الأخير منذ شهرين هو الهجوم بالصواريخ والمسيّرات على البنى التحتية الأوكرانية بحيث بدأ الأوكرانيون يشعرون بالاستنزاف بعد قرابة العام على الهجوم الروسي عليهم. لكن ليس ذلك فقط، فهناك مائتا ألف روسي يجري العمل على تجنيدهم ودفعهم لصفوف القتال بحيث تكون المواجهات على ثلاث جبهات أو أربع، واحدة منها انطلاقاً من القرم والسواحل. والأخرى انطلاقاً من بيلاروسيا، التي زارها بوتين ويريد إرغامها على القتال إلى جانبه؛ فإن لم تقبل فالمطلوب أن يتمكن الروس من القتال انطلاقاً من بيلاروسيا. في الأشهر الماضية عُقدت اتفاقيات عدة بين روسيا وبيلاروسيا، وصدرت تهديدات من الرئيس البيلاروسي لأوكرانيا باعتبارها معتدية تحت وطأة بوتين. إنّ هذه الجبهات الجديدة والمتوسعة، مع احتمال التحرش ببلدانٍ أخرى في البلطيق أو في بولندا، أمور خطيرة وليست بعيدة عن التوقع.
هل هذه تهويلات؟ كيسنجر الواقعي جداً لا يستبعد أي احتمال. فهو يخشى تفاقم النزاع ليصبح ضد مصالح الجميع. ولذلك؛ فوقف النار والذهاب للتفاوض لمصلحة الجميع. وتقديره الرسمي أن التحادث يبدأ بأنه لا غالب ولا مغلوب. لأنّ الغلبة الأوكرانية تعني عدم قبول التفاوض حتى اكتمال التحرير. والغلبة الروسية تعني السير حتى النهاية في الحرب من أجل الوصول إلى إسقاط أوكرانيا. فمقولة اللاغالب واللامغلوب تعني فرضاً لنوعٍ من التوازن لتسهيل البدء بالتفاوض بعد إيقاف القتال.
إنما ما هدف التفاوض؟ بالطبع: تحقيق السلام والعدالة. فلا يكتمل أحدهما إلا بحضور الآخر. بيد أنه من الناحية الواقعية لا يمكن الاقتران بينهما مع أنّ السلام لن يكون مستقراً ودائماً من دون عدالة. بيد أنّ الإصرار على الاقتران (وهو في حالة أوكرانيا: انسحاب الروس من أراضيها) سيعني استمرار القتال. فليتحقق الهدف الأول وهو إيقاف القتل، وبعد ذلك وخلال التفاوض يجري البحث بعناية في تفاصيل إحقاق العدالة. فصحيح أنّ الروس لن يقبلوا الاقتران، لكنّ السلام أو وقف النار لن يصبح سلاماً إلا بالمضي نحو العدالة التي ينبغي أن يبقى هناك أملٌ في تحققها أو تعود الحرب. بنهاية الحرب العالمية الأولى فرض المنتصرون على ألمانيا تعويضات باهظة ومذلة فكانت أحد أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية. وبالطبع، لا يمكن فرض عقوبات مزيدة على روسيا أثناء التفاوض فهي مفروضة الآن وآخِر أجزائها فرض سقف لأسعار الغاز الروسي بمعزلٍ عن السوق والعرض والطلب. إنما من ناحية أُخرى لا ينبغي أن ننسى أنّ روسيا عام 2014 حققت بالتفاوض انتصاراً شبه كامل. فقد أخذت شبه جزيرة القرم، وفرضت اتفاقية مينسك بشأن دونباس، وهي لا تُدخل الإقليم تحت السيطرة الروسية، لكنها تُخرجه من مظلة السيادة الأوكرانية الكاملة.
وهكذا، فالإقناع بوقف النار صعب على الطرفين؛ لأن كليهما يتطلع للانتصار الكامل، وكلٌّ من وجهة نظره: العدالة الكاملة في نظر أوكرانيا، والانتصار الكامل في نظر روسيا. لكنْ بعد عامٍ على الحرب لا تتقدم روسيا، بل تتراجع هنا وهناك؛ ولذلك تهدد بالمزيد من التوسيع في الحرب - كما أنّ الإرهاق بدأ يسيطر على المقاومة الأوكرانية ولا تقدم بعد خاركيف وخيرسون، مع تعاظم قدرات الروس على التخريب أو المضي باتجاه حرب الأرض المحروقة.
إذا نجحت خطة كيسنجر وأقبل الطرفان على التفاوض، تتحقق فائدة أولى بوقف القتل إنما تكون مطالب الروس الاحتفاظ بما حققوه، وإسقاط العقوبات - وتكون مطالب الأوكرانيين إحقاق العدالة بالانسحاب الكامل، والتعويض بإعادة الإعمار. خسائر الروس كبيرة جداً بالأرواح، وخسائر أوكرانيا كبيرة جداً بالأرواح وخراب العمران. وقد يكون ذلك بين دوافع قبول الطرفين للتفاوض. ويبقى أنه تتعذر العودة إلى ما قبل عام 2014 بالنسبة لأوكرانيا وروسيا، وإلى ما قبل العام 2022 بالنسبة لأوروبا أولاً والعالم كله ثانياً.