روكسين غاي
TT

تشكيل الوعي من خلال أفلام تافهة

يعد «الحوت» (ذي ويل)، أحدث أفلام المخرج دارين أرونوفسكي، واحداً من هذه الأفلام التي تأمل في أن يشاهدها جمهور يملك القدر اللازم من المعرفة الثقافية والقدرة على التعاطف مع الآخرين وإدراك كيف يشعرون. أما السبب، فلأنهم سيشاهدون قصة حول السمنة لا تحمل سوى القليل للغاية من التشابه بالتجارب الحية لأصحاب السمنة على أرض الواقع.
كان ينبغي للفيلم أن يطلب منا أن نرى تشارلي، البطل الذي اضطلع بدوره بريندان فريزر، باعتباره إنساناً كي نتمكن من فهم حزنه ونحزن معه، ونتمنى له أن يتمكن من جمع شتات نفسه وحياته معاً.
ومع ذلك، لم تكن هذه الطريقة التي جرى بها تصوير الفيلم. فأثناء الفيلم، سيشاهد معظم المشاهدين رجلاً يزن 600 رطل لا يبدي أي رغبة في الاعتناء بنفسه، ويتملكه الحزن على فقدان شريكه الذي مات منتحراً. وسيطرت عليه الرغبة في الموت، واستغل الطعام كوسيلة للوصول إلى هذه الغاية.
ويبدو واضحاً على امتداد الفيلم ازدراء صانعي الفيلم تجاه البطل. في الواقع، إنه لأمر مزعج للغاية ـ أن يكون لديك كل هذه المواهب على الشاشة وكل هؤلاء المبدعين الحائزين جوائز خلف الكاميرا، ليعملوا معاً على صنع مثل هذا الفيلم غير الإنساني عن شخصية شديدة الإنسانية. إذن، ما الهدف من ذلك بالضبط؟
وعلى امتداد الجزء الأكبر من الفيلم الذي تبلغ مدته ساعتين، جاء «الحوت» محطماً للمرء من الناحية العاطفية. كان من المحزن للغاية مشاهدة حزن تشارلي وعجزه عن إيجاد الإرادة للعيش.
وبدت الظروف المحيطة بتشارلي هائلة ولا رحمة فيها ـ تدريسه فن الكتابة عبر الإنترنت، وحرصه دوماً على الاختباء من تلاميذه من خلال الإبقاء على الكاميرا مغلقة، وتحمله موجة الغضب العارم، التي يمكن تفهم أسبابها، من جانب ابنته المراهقة التي ترغب ببساطة في فهم السبب وراء هجرانه لها، علاوة على محاولات تشارلي التهرب من قلق صديقته المقربة، التي فقدت بالفعل أخاً حبيباً لها ولا تحتمل فكرة خسارة آخر صلة تربطها به. وأعتقد أنه هنا تحديداً يكمن المغزى في هذا التعديل المحدد لمسرحية سام هنتر التي تحمل الاسم ذاته.
لم أكن أعرف الكثير عن الفيلم، لكنني كنت أعرف أنه يدور حول رجل بدين يسعى إلى نوع من الخلاص، وأن فريزر هو من اضطلع ببطولة الفيلم، أحد الممثلين المفضلين لدي. وعلى الرغم من أنه كان يرتدي بدلة مصممة خصيصاً كي يظهر في جسم بدين لهذا الدور، وهي واحدة من ممارسات هوليوود التي أبغضها، كنت على استعداد لمنح الفيلم فرصة، وأظهرت تجاهه الكثير من حسن النية.
أما أعضاء فريق التمثيل الصغير، فنجحوا في تبرئة أنفسهم جيداً بما يكفي بالاعتماد على المواد التي جرى تقديمها لهم. أثناء الفيلم، يعيش تشارلي معزولاً وينغمس في التفكير في أخطائه بينما كان يحتضر بسبب قصور في القلب. وفي أيامه الأخيرة، يحاول تشارلي التصالح مع ابنته المغتربة عنه التي لا تبدي نحوه التوقير المناسب، إيلي (سادي سينك). وتولت رعاية ابنته أقرب أصدقائه وأخت شريكه المتوفى ليز (هونغ تشاو). أما رتابة الحياة التي يعيشها تشارلي، فقد قطعها توماس (تاي سيمبكنز) المبشر المضلل الذي أقحم نفسه في أيام تشارلي الأخيرة.
من ناحيته، تمكن فريزر من إضفاء قدر من الشفقة إلى هذا الدور، على الرغم من أنني أتمنى لو أنه حصل على مادة أفضل، وأكثر جدارة بموهبته. الحقيقة أن أداءه يجعله جديراً بالمنافسة بقوة على جميع الجوائز الكبرى. والحقيقة أن هذا عار، ليس لأنه لا يستحقها، وإنما لأن ما تجري مكافأته هنا أيضاً هو مثل هذا التصوير المهين لرجل بدين. وبالتأكيد، سنسمع عن مدى شجاعة فريزر لقبوله دوراً كهذا، لارتدائه بدلة سميكة ولكونه مستعداً لتجسيد مخاوف الكثير من الناس. من ناحيتها، يروق لهوليوود مكافأة الممثلين الذين يجرأون على القيام بأدوار تتطلب منهم التخلي عن المظهر الجيد الذي مكنهم في الأساس من بناء حياتهم المهنية.
في بعض الأوقات، يذكرنا «الحوت» بـ«الرحيل عن لاس فيغاس» وكيف يمنح الفيلم بن ساندرسون (نيكولاس كيدج) نوعاً من الكرامة، بينما ينغمس في شرب الكحوليات حتى الموت. ويظل البطل جزءاً من العالم، حتى وهو يشق طريقه نحو الخروج منه. في المقابل، لم يحصل تشارلي على أي شيء من هذا القبيل. ومع أن القائمين على فيلم «الحوت» يزعمون أنه جرت كتابته بدقة وحرص، فإن هذا يتنافى تماماً مع ما نعاينه على الشاشة.
على سبيل المثال، في المشهد الافتتاحي للفيلم، لا يبدو واضحاً حقيقة ما يدور، حتى تتضح الصورة أخيراً: تشارلي يشاهد فيلماً إباحياً ويبدو غارقاً في العرق ويلهث لالتقاط أنفاسه. ومن غير الواضح ما الذي سيحدث. ولا تكمن المشكلة هنا في الصورة التي يبدو عليها تشارلي أو الصعوبة التي يواجهها في التعامل مع جسده، وإنما المشكلة الحقيقية أن صانعي هذا العمل عاجزون عن إخفاء ازدرائهم تجاه تشارلي في أي لحظة يحاول خلالها إشباع رغبة إنسانية بداخله.
علاوة على ذلك، تبدو الكثير من الخيارات الإبداعية الأخرى داخل الفيلم غير ضرورية. على سبيل المثال، نرى تشارلي في أحد المشاهد وفي خضم نوبة من الألم العاطفي، ينهمك في تناول أي طعام تقع عليه يداه، بدءاً من البيتزا المليئة بالدهون. ولم يمضِ وقت طويل حتى غطت الشحوم وجهه. وهناك مشهد آخر يأكل فيه كمية من الدجاج المقلي. وكذلك هناك خزانة ملابسه التي تحمل بداخلها ملابس تشبه الخيمة ورثة وغارقة في العرق على الدوام.
أيضاً، نرى بطنه المتدلي على فخذيه، و«المشاية» التي لا يستطيع التحرك من دونها، وتوجد دائماً إلى جواره.
في الواقع، فإن الأسلوب الذي يجري من خلاله سرد فيلم «الحوت» تعكس غياباً عميقاً للخيال على نحو يثير الشفقة. عند مشاهد عدة في الفيلم، راودتني الرغبة في الخروج من دار العرض، لكن لم أرغب في أن أبدو فظة أو مفرطة في الحساسية.
المؤكد أن القصص لها تأثير، وتسهم بقوة في تشكيل الوعي. ويتعامل هذا الفيلم مع سمنة تشارلي على نحو مروع، لا يخلو من استغلال وقسوة في بعض الأحيان.
وأثناء الفيلم، غلبني البكاء خلال معظم المشاهد، وسمعت آخرين يبكون أيضاً، رغم أنني أظن أننا جميعاً كنا نبكي لأسباب مختلفة. كان من المؤلم أن نشاهد وفاة تشارلي، وكيف جرى تصويرها، وحجم الإهمال الذي بدا واضحاً في النص المكتوب للفيلم. كان من الواضح تماماً أن هنتر وأرونوفسكي اعتبرا السمنة هي التجسيد النهائي للفشل البشري، واعتبراه أمراً حقيراً يجب تجنبه بأي ثمن.