إيمي ماكسمين
TT

استراتيجية للوقاية من الأوبئة؟

ترجع أهمية اللقاحات إلى قدرتها على القضاء على الأوبئة؛ ما يجعلها محورية في التخطيط للاستعداد لأي وباء مستقبلاً. وتعدّ البلدان النامية أكثر إدراكاً عن غيرها لأهمية هذه الحاجة بعد أن انتظرت العديد من الدول ما يقرب من عام كامل للحصول على إمدادات وفيرة من لقاح «كوفيد - 19»، في الوقت الذي تمتعت فيه البلدان الغنية بإمدادات كبيرة على امتداد فترة طويلة. على سبيل المثال، عُرض على الأميركيين جرعات ثالثة من لقاحات تقنية الحامض النووي الريبوزي المرسال، أو لقاحات «الرنا»، في وقت لم يتلق فيه 98 في المائة من الأشخاص في البلدان منخفضة الدخل الجرعة الأولى.
وتبعاً لدراسة نشرت حديثاً في دورية «نيتشر ميديسين»، تسبب اكتناز اللقاحات في فقدان أكثر عن مليون شخص حياتهم. ولتجنب تكرار هذه المأساة، من الضروري أن تكون كل منطقة من مناطق العالم قادرة على صنع لقاحات خاصة بها محلياً؛ إذ تعتمد حالياً أفريقيا وأميركا اللاتينية وأجزاء من جنوب شرقي آسيا بشكل أساسي على اللقاحات المستوردة.
وفي هذا الصدد، قال ريك برايت، المدير السابق لـ«هيئة البحث والتطوير الطبي الحيوي المتقدم» التابعة لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية، إن «الطريقة الوحيدة لإعداد العالم لتفشي الجائحة إضفاء الطابع الإقليمي على الإنتاج والوصول إلى التدابير الطبية المضادة، مثل إنتاج اللقاحات».
من جهتها، تتفهم الإدارة الأميركية الحاجة إلى القدرة على تصنيع اللقاح محلياً، ففي أكتوبر (تشرين الأول)، أعلنت وزارة الصحة الأميركية عن تطبيق استراتيجية الأمن الصحي التي طرحها بايدن، من خلال تحسين القدرات المحلية لصنع اللقاحات والأدوية والاختبارات التشخيصية. ومع ذلك، لم تقترح إدارة بايدن خطة جادة للمساعدة في ضمان تنفيذ الشيء نفسه من قبل جميع مناطق جنوب الكرة الأرضية، بحيث يمكن لمليارات الأشخاص الحصول على اللقاحات في الوقت المناسب في حالة ظهور مرض فتاك آخر.
الحقيقة، أن تأمين أجزاء أخرى من العالم ليس عملاً رحيماً فحسب، بل استراتيجي أيضاً، فهذا من شأنه المساعدة في ضمان سلامة الولايات المتحدة لأن الفيروسات تنتقل، وتفشي المرض لفترات طويلة يؤدي إلى ظهور متحورات، إضافة إلى أن حالات الطوارئ الصحية تؤدي إلى زعزعة استقرار البلدان بطرق يمكن أن يكون لها تداعيات على العالم كله.
وبحسب برايت، فإن «الأمن الدولي هو أمن وطني». حدث هذا في الولايات المتحدة في مارس (آذار) 2021 عندما ظهر المتحور «دلتا» من فيروس «كورونا» في الهند في وقت كانت فيه البلاد تفتقر إلى لقاحات «كوفيد»، ومرة أخرى في نوفمبر (تشرين الثاني) عندما جرى اكتشاف المتحور «أوميكرون» في جنوب أفريقيا غير الملقحة بالكامل. عن ذلك، قال جيريمي كونينديك، خبير الاستجابة للأزمات الذي أدار حديثاً لجنة العمل الأميركية المعنية بـ«كوفيد - 19»: «أكثر ما تسبب في تقويض التأثير الحمائي للقاحات الأميركية، ظهور متحوري (دلتا) و(أوميكرون)».
أما الدرس الآخر المستفاد من الوباء، فيتعلق بعدم تنفيذ الوعود المرتبطة بعدالة توزيع اللقاحات، فقد استغرق الأمر أشهراً عدة حتى تفي البلدان والشركات بالتزامها مبادرة «كوفاكس»، وهي الآلية الدولية لضمان وصول اللقاحات إلى البلدان الفقيرة.
في هذا السياق، قال ريتشارد هاتشيت، المسؤول التنفيذي لـ«تحالف ابتكارات التأهب للأوبئة»، إنه في إطار الاندفاع لحماية مواطنيها، سارعت الدول المنتجة للقاحات للحصول على أكبر عدد ممكن من اللقاحات وقيدت صادراتها. وأضاف، أن «الدول التي لديها لقاحات عملت لخدمة سكانها أولاً. ونحن في حاجة إلى الاعتراف بحدوث ذلك وقبوله كحقيقة سياسية».
ولمنع التاريخ من تكرار نفسه، تحاول الحكومات في جميع أنحاء أفريقيا وأميركا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا تعزيز القدرات الإقليمية لإنتاج لقاحات مضادة لـ«كوفيد - 19» وغيرها من الأمراض والأوبئة. وتهدف الحكومات الآن إلى بناء هذه القدرات حتى تكون الشركات على أهبة الاستعداد عندما يضرب العالم الوباء التالي.
ومن ضمن المبادرات، كانت تلك التي شاركت في تأسيسها منظمة الصحة العالمية والتي تضم شركات أدوية في أكثر من اثني عشر بلداً متوسط الدخل، بما في ذلك جنوب أفريقيا والأرجنتين وإندونيسيا. تعمل المبادرة على إنتاج لقاحات «الرنا» لمواجهة «كوفيد - 19» على أمل استخدامها ضد أمراض أخرى.
وكذلك تركز شراكة أخرى بين معهد «سيرام انستيتيوت» في الهند وشركة «أسبين فارماكير» جنوب أفريقية على تقديم أربعة لقاحات روتينية للأطفال. وتعمل مؤسسة «بايومانغينوس فيوكروز» البرازيلية على توسيع مرافق إنتاج اللقاحات لتشمل تقنية «الرنا».
من ناحيتها، تعد الولايات المتحدة في وضع جيد يسمح لها بمساعدة هذه الجهود وعشرات الجهود الأخرى في جنوب العالم؛ نظراً لأنها تمثل قوة عظمى علمية، وذلك بالتعاون مع بعض من أقوى المؤسسات البحثية في العالم، بالإضافة إلى قطاع التكنولوجيا الحيوية والأدوية المزدهر. علاوة على ذلك، فإن التعاون بين العلماء في الولايات المتحدة والدول النامية له فائدة إضافية تتمثل في تعزيز النوايا الحسنة والتواصل الذي يعد أمراً حيوياً لمواجهة وباء سريع الانتشار.
ومع ذلك، يبقى الدعم الأميركي متواضعاً حتى الآن، فقد وقّعت «معاهد الصحة الوطنية» اتفاقيات للتعاون مع مبادرة منظمة الصحة العالمية، لكن هذه الشراكة لم تشمل التمويل المباشر. كما منحت «مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأميركية» قروضاً بلغ مجموعها نحو 125 مليون دولار إلى شركتين أفريقيتين من مصنّعي اللقاحات هما «أسبين فارما» ومعهد «بيستور» في داكار بالسنغال. إلا أن تطوير قطاع التكنولوجيا الحيوية ليصبح قادراً على إنتاج اللقاحات في جميع أنحاء العالم النامي يتطلب المزيد.
وتحتاج الأجهزة التنظيمية لكل دولة إلى التعزيز لضمان أمان وجودة اللقاحات المنتجة في جنوب الكرة الأرضية. وأيضاً إلى قوة عمل علمية قادرة على البحث عن اللقاحات وإنتاجها.
وعلى الجبهتين، يمكن للولايات المتحدة المساعدة من خلال برامج التدريب في «إدارة الغذاء والدواء».
سيحتاج مصنعو اللقاحات الجديدة أيضاً إلى المشترين للبقاء واقفين على أقدامهم. وقال جيرمي كونينديك، إن «الولايات المتحدة، بوصفها واحدة من أكبر المتبرعين لتحالف لقاحات غافي الذي يشتري اللقاحات لعشرات البلدان ذات الدخل المنخفض، يمكنها تشجيع التحالف بتقديم حوافز للقاحات المصنعة في أفريقيا أو أميركا اللاتينية».
قد لا تتمكن مجموعة جديدة من الشركات المصنعة في أفريقيا وأميركا اللاتينية من تطوير لقاحات فريدة خاصة بها في البداية لأن العديد من البلدان في تلك المناطق تفتقر إلى الأساس القادر على التمويل الجيد للبحوث بالمستوى الذي تقدمه الولايات المتحدة. لذلك؛ يعد نقل التكنولوجيا أمراً ضرورياً، حيث تشارك الشركات في شمال العالم معارفها وملكيتها الفكرية مع الباحثين في جنوب الكرة الأرضية. إلا أنه من غير المرجح أن يؤدي اتباع نهج تطوعي صارم إلى نقل التكنولوجيا. فبمجرد أن تمتلك شركة أدوية حصرياً حقوق منتج مربح، فغالباً ما يكون من الصعب على حكومة الولايات المتحدة إجبارها على مشاركته مع غيرها.
واختتم كونينديك قائلاً «كانت الديناميكية التي رأيناها في الوباء هي أن الشركات تتمتع بنفوذ كامل؛ لأن أولوية الجميع كانت مجرد الحصول على الجرعات». لكن من الآن فصاعداً، يمكن للحكومة الأميركية تغيير نهج تمويلها للبحوث بحيث يحدث المزيد من نقل التكنولوجيا في المستقبل.