فيليب كوستر
TT

ألمانيا... كرة القدم كما السياسة تحتاج إلى بداية جديدة

كانت البداية واعدة. في مجموعة على تطبيق «واتساب»، وتحت عنوان مفعم بالحيوية هو «تأهّبوا»، وجّه هانسي فليك، مدرب الفريق الوطني الألماني، رسالة حماسية مثيرة إلى اللاعبين الستة والعشرين الذين يمثلون البلاد في بطولة كأس العالم. وتحت صورة مصباح، أضاف زميله قائلاً: «فليتوهج نورنا في قطر».
لم يحدث هذا تماماً، فبعد خسارة الفريق أمام اليابان في عرض هزيل، تمكّن الفريق بالكاد من التعادل مع إسبانيا بفضل نقطة معادلة متأخرة.
هناك أسباب كثيرة لهذا الأداء الضعيف، لكن من أهم تلك الأسباب هو المدرب فليك. لقد بدا خلال الجزء الأكبر من عمله كمدير فني أن قدره هو أن يصبح مساعداً مستديماً، أولاً ليواخيم لوف، الذي درّب الفريق الوطني الألماني لمدة طويلة، ثم في نادي بايرن ميونيخ، أكبر نادٍ في ألمانيا. مع ذلك تغيرت الأمور سريعاً بالنسبة إلى فليك خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث أصبح الرئيس في «بايرن»، وقاد النادي نحو الحصول على لقب دوري أبطال أوروبا، ثم حلّ محل رئيسه السابق لوف كمدرب للفريق الوطني. لقد تحوّل فليك من البديل إلى القائد.
في انعطاف تاريخي مثير للفضول، شهدت السياسة الألمانية وضعاً مماثلاً لأولاف شولتس، المستشار الألماني، حيث لم يبد أنه سيحقق أي نجاح منذ بضع سنوات. بعد تخطيه وتجاوزه في رئاسة الحزب عام 2019، كان يتم تعريفه بمدة خدمته الطويلة في حكومة أنجيلا ميركل كمسؤول موثوق به، لكن ليس كقائد. مع ذلك خلال الانتخابات التي تم إجراؤها في العام الماضي، ساعده اقترابه من السيدة ميركل، وقدرته على إظهار وإبداء روح الاستمرار، في الوصول إلى منصب مستشار البلاد.
يواجه الرجلان حالياً صعوبة في عبور واجتياز فترة تواجه فيها قوة وصمود ألمانيا، كفريق كرة قدم وكبلد، اختباراً عسيراً. يبدو أن الاثنين غير قادرين على النجاح في تنفيذ المهام المطلوبة في ظل ظروف صعبة.
أوجُه الشبه بين فليك وشولتس، اللذين تفصل بين تاريخي ميلاديهما سبع سنوات، واضحة وجليّة، حيث يمتاز الاثنان بالذكاء، لكن سرعان ما يمكن أن يصبحا بغيضين إذا لم يتم تقدير هذه الألمعية العقلية بقدر كافٍ. قدرة الاثنين على التواصل مع العامة والجمهور ضعيفة، لكنهما يشعران بالاستياء إذا ما تمت إساءة فهمهما. الأهم من كل ذلك هو أن الاثنين يتسمان بالعملية والبراغماتية بشكل ثابت، حيث لا توجد لديهما أي مساحة للرؤية والإلهام. المؤتمرات الصحافية لفليك مملّة مثل المؤتمرات الصحافية للمستشار، وهو ما يعد إنجازاً بدرجة ما.
تكمن المشكلة في أن العالم المريح، الذي يتسم بسهولة قيادته وإدارته، وكان موجوداً خلال العقد الماضي، لم يعد موجوداً الآن، سواء في كرة القدم أو السياسة. لقد دفعت الكارثة المناخية، والوباء، والحرب في أوكرانيا، الألمان خارج منطقة الراحة الخاصة بهم، وبدأ يتضح للجميع رويداً رويداً أن ألمانيا، التي تتمرغ في ذكريات النجاحات والإنجازات السابقة، قد أصبحت قانعة راضية بحالها.
اتخذت تلك القناعة بالحال في مجال السياسة شكل التملص والتهرب من اتخاذ القرارات الصعبة، على سبيل المثال فيما يتعلق بتوصيل الدبابات إلى أوكرانيا، واستئناف تشغيل محطات الكهرباء التي تعمل بالطاقة النووية لتحل محل الغاز الروسي. وفي مجال لعبة كرة القدم، التي كان الفريق الألماني يعتقد أنه لا يُهزم فيها بعد فوزه بكأس العالم في 2014، تم السماح بتقادم وتقوُّض منظومة الشباب التي كانت تمثل أساس النجاح.
تحتاج البلاد إلى بداية جديدة، ولتحقيق ذلك تحتاج إلى قادة يتمتعون بجاذبية وتأثير. يمكن أن يتحقق ذلك في مجال كرة القدم من خلال أشخاص ساحرين جذابين مثل يورغن كلوب، مدير نادي ليفربول الإنجليزي، في حين يمكن أن يتحقق ذلك في مجال السياسة من خلال مفكر فصيح وبليغ مثل روبرت هابيك، وزير الاقتصاد. عوضاً عن ذلك لدينا فليك وشولتس. لقد تمسكا في منصبيهما بوهم العودة إلى عالم البارحة والأيام الخوالي، وإمكانية أن تصبح ألمانيا، من دون تغيير أي شيء فعلي، مرة أخرى سليمة ومعافاة اقتصادياً وناجحة رياضياً.
هناك نظرية شهيرة في ألمانيا تقول إن تغيرات اجتماعية كبرى تظهر وتطفو على السطح من خلال طريقة أداء الفريق الوطني. يعدّ فوز ألمانيا بكأس العالم في 1954، فيما تسمى معجزة «بيرن»، هو الأساس الرمزي لدولة ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. كان فريق السبعينات، بقيادة أشخاص ذوي شعور طويلة ويتمتعون بروح حرة طليقة مثل غونتر نيتزر، الذي ينبض بالروح الحرة لانتفاضة الطلبة. وفي الثمانينات، كان الفريق الألماني يحاكي جهود الحفاظ على البيئة تحت قيادة هيلموت كول بركلاته الطائشة على أرض الملعب.
إذا كان هناك تشابه كبير بين السياسة وكرة القدم، ربما تكشف بطولة كأس العالم، العام الحالي، عمّا إذا كانت ألمانيا سوف تتمكن عمّا قريب من تجاوز خوفها من التغيير، وتبدأ بداية جديدة أم لا. ليحدث ذلك، ينبغي أن تحلّ رغبة جديدة في الهجوم والاستمتاع محل تفادي المخاطر، الذي جعل طريقة اللعب الألمانية غير جذابة خلال السنوات القليلة الماضية، وذلك بتشجيع من مدرب وطني عليه إعادة اختراع نفسه أيضاً.
من شأن ذلك الأسلوب الجديد أن يفعل ما هو أكثر من بثّ الحياة في جانب محتضَر، حيث يمكن أن يبعث برسالة إلى المجتمع الألماني مفادها أنه أيضاً قادر على تحرير نفسه من قيود وأغلال الخوف. سوف يكون استعراض الإبداع، والشغف، والروح القتالية هو العلاج المثالي لحالة التأرجح بين الحياة والموت التي تعاني منها البلاد، التي تتردد بين التوق إلى التغيير، والقلق مما يمكن أن يحدثه.
لم يحدث هذا بعد، فالفريق لا يزال حذراً ويفتقر إلى التدفق والغاية. مع ذلك لم يضع كل شيء بعد، فلا يزال بإمكان ألمانيا الصعود إلى الدور التالي، وكانت هناك مؤشرات في نهاية مباراة إسبانيا توضح استعداد الشباب لاقتناص اللحظة. ربما يتمكن الفريق من خلال شغفه وروحه أن يوضح للبلاد بأكملها مدى قدرتها على الصمود خلال فصل الشتاء العصيب المقبل.
في النهاية ليس من الحكمة استبعاد الألمان وعدم منحهم الفرصة، وكل شيء ممكن، أو على حد تعبير فليك: «تأهّبوا».

* صحافي ألماني في مجال كرة القدم، ورئيس تحرير مجلة «11 فرويندا» الشهرية المتخصصة في كرة القدم