سيرج شميمان
TT

المرأة التي جسَّدت أسطورة الملك الصالح

للعمل في ظل ديمقراطية غير عادية، تتطلب الملكية الوراثية أن يقبل المواطنون القليل من الخيال -أي إن عائلة تترفع عن العمل السياسي يمكنها أن تمثل الأمة وقيمها.
لقد تطلب ذلك بعض الجهد، خصوصاً ذلك القصر الملكي الذي تحيطه الأنظار (قصر وندسور) الذي حكم المملكة المتحدة و14 مملكة أخرى من دول الكومنولث. قلة قليلة من أفراد العائلة المالكة تعرضت للفضائح العامة التي غطّت صفحات الصحف الصفراء، منها ما قيل عن الأمير أندرو جراء مزاعم الاعتداء الجنسي. وكانت آخر الضربات التي وُجهت إلى قصر «وندسور» ذلك الخلاف الذي نشب بين العائلة المالكة البريطانية والأمير هاري وزوجته الأميركية ميغان ماركل.
لكن أياً من ذلك ينطبق على الملكة إليزابيث الثانية، أطول ملكة اعتلت عرش البلاد على الإطلاق لأن الكثيرين سيذكرون لها دورها الإيجابي وسيرتها العطرة طيلة تلك الفترة الطويلة. لكن ما ينطبق عليها حقاً كانت تلك الكلمات التي صاغها أعظم كاتب مسرحي أنجبته بلادها، ويليام شكسبير، عندما قال في رثاء ملكة سابقة: «أحسنتِ يا أميرة، يا سليلة الملوك».
أكثر ما أثار فضول شعبها هو قدرة الملكة الراحلة على تعزيز مكانتها السامية كملكة على الرغم من معاناتها من مغامرات أبنائها وأقاربها. فهي لم تتخلَّ مطلقاً عن ثباتها ورباطة جأشها التي لطالما عشقها البريطانيون وجعلتهم يرون فيها علامة مميزة. غير أن الحدث المعلن الوحيد الذي أظهر اضطراباً داخلياً كان ذلك الذي شهده قصر «وندسور» عام 1992، وهو العام الذي انهارت فيه ثلاث زيجات ملكية ووصفه القصر بـ«العام المرعب».
في أغلب الأحيان، كانت الصحف الصفراء في جميع أنحاء العالم تتعرض لحياة شقيقتها وأطفالها وأحفادها، وكانت الملكة تتسامي فوق كل ذلك. زادت شعبيتها على مر السنين، وكذلك الدعم الشعبي للحفاظ على العائلة المالكة. كل ذلك جعل الأمير هاري وقرينته ماركل يحرصان على عدم اتهام الملكة بالقسوة أو العنصرية في مقابلتهما الصحافية الجريئة التي أجرتها معهما أوبرا وينفري العام الماضي حول قرارهما الانفصال عن العائلة.
وبفضل سلوكها ولباقتها وصمودها وتفانيها الدائم وباعتلائها العرش لسنوات كثيرة، أسهمت الملكة إليزابيث في تعريف أوروبا ومناطق كثيرة من العالم معنى الملكية الدستورية، وكانت الملكة الأكثر سفراً في العالم، حسب صحيفة «التلغراف» البريطانية. فبحلول عيد ميلادها التسعين، كانت قد قطعت ما لا يقل عن 1.032.513 ميلاً و117 دولة. وحاول الرؤساء الأميركيون الثلاثة عشر الذين التقتهم جاهدين أن يتصرفوا بشكل لائق في وجودها.
كان من سمات حياتها البذخ والإسراف -الذي وصفه البعض بالمفرط- والاحتفالات المترفة التي أُقيمت لها في كل ظهور ملكي. فرغم أن الدول الاسكندنافية سعت لتقليص مظاهر البذخ في ممالكها إلى أدنى مستوى حتى إنك بالكاد يمكنك تمييز ملوكها وملكاتها عن المواطنين العاديين، فقد حافظت بريطانيا بفخر على مظاهر ملكية القرون الوسطى كاملة متمثلة في العربات المذهبة، والخوذات المصنوعة من جلد الدب، وزي الحرس الملكي المصنوع غالبيته من الجلد.
يُنظر إلى أفراد العائلة المالكة بوصفهم علامة بريطانيا التجارية وهويتها. لكن الملكة إليزابيث كانت دائماً مستعدة للتعامل مع كل شيء، بدءاً من ارتداء تاج زنة خمسة أرطال في أثناء قراءة رسالة نمطية في البرلمان، إلى التظاهر بالبهجة في بعض المراسم الاحتفالية بوصفها الواجب الذي كرّست حياتها له، وهو ما تجلى في كلماتها الأولى في خطاب مؤثر في عيد ميلادها الحادي والعشرين عندما قالت: «أعلن أمامكم جميعاً أن حياتي كلها، سواء كانت طويلة أم قصيرة، ستُكرس لخدمتكم وخدمة عائلتنا الملكية العظيمة التي ننتمي إليها جميعاً». وعلى الرغم من أن الديمقراطية لم تترك لها سلطة حاكمة حقيقية، فإنها كانت سابقة لعصرها في الدفاع عن المساواة والتنوع في الكومنولث، وحسب غالبية الروايات، فقد كانت وجهات نظرها وآراؤها معروفة لرؤساء الوزراء المتعاقبين الذين كانت تلتقيهم أسبوعياً.
كانت علاقتها بالمرأة القوية مارغريت ثاتشر، رئيسة الوزراء الراحلة التي خدمت طويلاً والتي كانت تقريباً في نفس عمرها، أفضل مثال للجميع. فقد أدت سياسات ثاتشر العمالية وإحجامها عن فرض عقوبات على جنوب أفريقيا إلى معارضتها المباشرة مع آراء الملكة، وفي وقت من الأوقات، أخبر السكرتير الصحافي للملكة، مايكل شيا، الصحافيين بأن الملكة عدّت سياسات رئيسة الوزراء «غير المبالية سبباً في مواجهة اجتماعية خلافية».
تجسد هذا الخلاف في عدد من الأفلام وفي المسلسل التلفزيوني الشهير «The Crown». لكن كما هو الحال مع الكثير من الأشياء المنسوبة إلى الملكة في المطبوعات والسينما، فإن الحقيقة تظل غائبة. وحسبما ورد، فقد نفت الملكة أن تكون هذه مشاعرها الحقيقية، ولم تناقش ثاتشر علناً علاقاتها مع الملكة.
لطالما كانت الملكة متحفظة بشأن تناول شؤونها الخاصة مقارنةً بباقي أفراد عائلتها، بمن في ذلك زوجها الراحل الأمير فيليب وولي عهدها الأمير تشارلز، اللذان كانا أقل تحفظاً بشأن التعبير عن وجهات نظرهما على نطاق واسع، وهو ما يثير سؤالاً حاسماً: هل يمكن للملكية أن تستمر بعد إليزابيث؟ أو، على سبيل الاستعارة مرة أخرى من مسرحية «أنتوني وكليوباترا» لشكسبير، «لن تُرى فيبوس الذهبية أبداً تلك العيون الملكية مرة أخرى».
انتظر الأمير تشارلز طويلاً لدرجة أنه في سن 73 بات أقرب إلى التقاعد منه إلى تسلم مهام وظيفة لطالما تدرب من أجلها، خصوصاً أنه لا يتمتع بشعبية كبيرة. وقد أشارت استطلاعات الرأي البريطانية إلى أن الكثيرين سيقفزون في أسرع وقت ممكن إلى الأمير ويليام، دوق كامبريدج، الذي أظهر مع دوقته الساحرة وأطفاله الرائعين موهبة العمل الملكي.
من المؤكد أن وجود تشارلز المتردد على العرش سيزيد من حجم الأسئلة حول قيمة وجود أسرة شابها بعض الشوائب كواجهة لبريطانيا. من المحتمل أن تشارك دول الكومنولث هذه الرؤية، وقد يحذو البعض حذو مملكة «باربادوس» في عام 2021 عندما أعلنت: «لقد حان الوقت لترك ماضينا الاستعماري وراءنا بالكامل»، أو جامايكا، التي قال رئيس وزرائها إن بلاده «تتحرك» بعيداً عن النظام الملكي البريطاني.
ربما وراء كل هذه الأسئلة المتعلقة بالشعبية واللياقة يكمن السؤال عمّا إذا كان هناك آخرون يشاركون نفس التقدير للملكة إليزابيث وما زالوا يشعرون بسحر الملكية وكرامتها.
كانت تلك سمات غربية موروثة من عصر كانت فيه كرامة العرش ودوره لا يزالان واضحين للكثيرين، خصوصاً عندما أشاد ونستون تشرشل -وهو معلم مبكر للملكة إليزابيث في شبابها- بالسيادة الملكية بوصفها «روعة ميراثنا السياسي والأخلاقي».
سنعتمد في قادم الأيام على الأجيال الشابة وسنراهم يسيرون قدماً. أحد ألغاز الحياة هو أن الكثير من قصص الأطفال تركز بقوة على الملوك والملكات الذين رأيناهم إما ملوكاً صالحين ومحبوبين، وإما أنهم غير ذلك وحل محلهم أمير أو أميرة صالحة.
غالباً ما كانت ذكريات طفولتنا مرتبطة بمفهوم الحكم بوصفه ملكاً صالحاً يسمو فوق فوضى السياسة الرديئة. وقد أثبتت الملكة إليزابيث أن ذلك يجب ألا يكون خيالاً.
* خدمة «نيويورك تايمز»