ليونيد بيرشيدسكي
TT

لماذا يعد القوميون الروس هدفاً كبيراً للجانبين؟

كأب لبنات، لا أستطيع أن أتخيل ما الذي يمر به الفيلسوف اليميني المتطرف ألكسندر دوغين بعد مقتل ابنته داريا في تفجير سيارة يوم السبت الماضي 20 أغسطس (آب). أعتقد أن شريط فيديو لدوغين ممسكاً برأسه في حالة من اليأس في مكان القتل، ودموعه تنهمر وهو يلقي خطاب التأبين، يخبر بالكثير عن حالته الداخلية أكثر من التصريح الفخم الذي أطلقه نيابةً عن دوغين صديقه الممول ونصيره كونستانتين مالوفيف: «لا تتوق قلوبنا إلى الثأر أو الانتقام، فهذا تافه تماماً، وغير روسي للغاية. إننا بحاجة إلى انتصارنا. فعلى مذبح النصر ضحّت طفلتي بحياتها».
مع ذلك، فإن البيان -والمضمون المماثل لخطاب التأبين- لا يكاد يكون بعيداً عن الموضوع. اغتيال داريا دوغين الذي يُلقى باللوم فيه من الكرملين وأجهزة الأمن الروسية على أوكرانيا، ومن الأوكرانيين على الكرملين أو على أعداء دوغين داخل روسيا، يُسلط الضوء على القوة الوحيدة داخل روسيا التي تدعم اجتياح فلاديمير بوتين لأوكرانيا بشغف صادق: المجتمع القومي الروسي، الذي ينتمي إليه دوغين بشكل بارز، والذي كانت ابنته ناشطة فيه أيضاً. ومن دون حماسة القوميين كقوة دافعة، فإن الغزو كان سيتحول إلى مجرد مغامرة للمرتزقة، ومن دون النصوص التي صاغوها منذ تسعينات القرن العشرين، ما كان بوتين، السياسي الماكر طيلة حياته ورجل الاقتصاد العميق الصلة بالنخب الثرية، ليجد الكلمات التي يستخدمها اليوم في تبرير مساعي أواخر حياته المهنية صوب المجد الإمبريالي.
أما دوغين، الذي يُوصف كثيراً بأنه «عقل بوتين» و«المهرج النازي»، فلا يتلاءم مع أي من الأنماط المطروحة. فمنذ تسعينات القرن الماضي وأوائل العقد الأول من القرن الحالي، كان المفكرون الروس وأتباعهم في الغرب مُغرمين بالسخرية من القوميين المتطرفين المهمشين الذين بثوا معتقداتهم الغريبة على مواقع غامضة على شبكة الإنترنت، ومن الواضح أنهم لم يكن لديهم أي أمل في العالم للحصول على المال أو السلطة أو النفوذ، وهي المقاييس الوحيدة للنجاح في موسكو. ثم، بعد الاستيلاء على شبه جزيرة القرم عام 2014 -الخطوة التي دعا إليها دوغين وحلفاؤه منذ تفكك الاتحاد السوفياتي- تحول البحث عن أصول التحول الإمبريالي لبوتين في كتابات الفلاسفة القوميين أمراً رائجاً. وعزز جنون العظمة بين ترمب وروسيا بعد 2016 من هذا الاتجاه، وبدا تواصل دوغين المتعدد اللغات مع القوميين في جميع أنحاء أوروبا، فضلاً على علاقاته مع الأحزاب التي يبدو أن الكرملين يؤيدها كطابور خامس في الغرب، خبيثاً بصورة واضحة.
حتى بعيداً عن هذه الروابط، وعن حلمه القديم بالإمبراطورية الأوراسية، وفي مركزها روسيا، هناك سبب وجيه لعدم اعتبار دوغين مهرجاً أو مجنوناً. ففي عام 2000 وبعد فترة وجيزة من تولي بوتين السلطة -وهو لا يزال وريثاً ليبرالياً نسبياً للرئيس بوريس يلتسين، السياسي المؤيد للغرب الذي سعى لمصادقة الولايات المتحدة والتمتع بعضوية روسيا في حلف شمال الأطلسي- كتب دوغين في صحيفة «زافترا» القومية أن صعود بوتين، ضابط الاستخبارات والأمن الداخلي (كي جي بي)، يعني أن روسيا سوف تحكمها أجهزة الاستخبارات والأمن الجديدة، واقترح البرنامج التالي من أجل «المشروع الأوراسي» في العهد الجديد:
- مقاومة الهيمنة الأميركية على مستوى العالم في جميع المجالات الاستراتيجية (بما في ذلك الاقتصاد والسياسة والثقافة والتكنولوجيا وخلافه).
- تهيئة دولة أوراسية قوية ذات سيادة تستخدم الاتحاد الروسي كأساس للتكامل الاستراتيجي بين رابطة البلدان المستقلة (الجمهوريات السوفياتية السابقة).
- إقامة شبكة من التحالفات الاقتصادية والعسكرية والسياسية مع القوى الأوراسية الكبرى الأخرى.
- التنمية القائمة على التعبئة لاقتصاد روسيا في إطار «اتحاد جمركي» موسع.
- تحقيق الاستقرار السياسي في روسيا، والانتقال إلى نظام الحزبين الأوراسي، وتهميش التطرف في المجالات الاقتصادية والوطنية والاجتماعية.
إن كان بوسعك تجاوز الإسهاب، فهذه هي الخطة التي قرر بوتين التراجع عنها بعد سنوات، إثر فشل محاولاته الرامية إلى دمج روسيا في العالم الغربي بشروطه الخاصة. فكتاب دوغين المعنون «أسس الجغرافيا السياسية» الصادر عام 1997 يبدو كأنه وصف أكثر واقعية لخطابات بوتين الأخيرة.
هذا لا يعني أن بوتين كان يستمع إلى دوغين طوال الوقت -أو، لا سمح الله، أنه أقر بأي قدرٍ من الولاء الفكري للفيلسوف القومي. فهذه ليست الطريقة التي يعمل بها بوتين. وتماماً، كما استند إلى الاقتصاد الليبرالي والقيم في وقت مبكر من حكمه، فإنه يحاول الاستيلاء على الترسانة الخطابية التي بناها القوميون في سنوات حماسهم؛ إذ لا يعترف بوتين بحقوق الطبع والنشر للأفكار: فإذا كانت هذه الأفكار تلائم أهدافه، فعليه الإيمان بها واستعمالها.
حتى في الوقت الراهن، الذي تُشكل فيه أفكار دوغين السابقة -بما في ذلك فكرة أن أوكرانيا كيان «شبه دولة» مصطنع بناه الأطالسة الماكرون لاستخدامه كحائط صد في مواجهة روسيا- الاتجاه السائد للآيديولوجيا الروسية، فإن دوغين لم ينغمس في العطايا، والأموال، والمناصب من الكرملين. والواقع أن مكانته بوصفه دخيلاً على الساحة السياسية تشبه الموقف الهامشي الذي اتخذه إيغور غيركين (ستريلكوف)، العقيد المتقاعد الذي ساعد في بدء الحرب في أوكرانيا عام 2014، والذي مُنع من المشاركة بأي دور في «العملية العسكرية الخاصة» الحالية. ويتخذ ستريلكوف وآخرون كثيرون في المجتمع القومي -أولئك الذين تطوعوا للقتال في أوكرانيا لأسباب آيديولوجية والمعلقون المتحالفون معهم- من دوغين مفكراً روسياً رئيسياً، وزعيماً فكرياً لأمة عظيمة لم يقم لها الاتحاد السوفياتي ولا روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي مقام الإنصاف الكامل.
لكن يبدو أن الكرملين يريد الحماس القومي من دون القوميين أنفسهم. وهم -ومن بينهم دوغين في المقام الأول- يدعون إلى التعبئة العامة، وإلى الانتقام الشديد ضد الليبراليين، وإلى تقليص دور الإثنيات غير الروسية في المجهود الحربي، وإلى اقتصاد غير رأسمالي مُخطط له على غرار زمن الحرب. والسير على منوالهم بالكامل يعني تغييرات لا رجعة فيها ويرفضها بوتين بوصفها أكثر تطرفاً مما ينبغي، على الأقل في الآونة الراهنة.
بيد أن عاطفة القوميين تشكل مورداً محدوداً، ولا يمكن استغلالهم أو تهميشهم إلى الأبد. وكما كتب المفكر الديني المحافظ أندريه كوراييف قائلاً على «فيسبوك»: «كثيراً ما يُقال هذه الأيام إن القوميين المتطرفين أشد خطورة على الكرملين من الليبراليين. ولم يتمكن دوغين، رغم قريحته الفكرية المتقدة، من التحول إلى زعيم شعبي. لكنه كان يؤهل طفلته الجميلة داريا للاضطلاع بدور الفرنسية مارين لوبن في روسيا».
الواقع أن عوامل الجذب والتوتر المتزامنة بين الكرملين وأنصار القومية المتطرفة من الممكن أن تفسر سبب استفادة الكرملين من توجيه ضربة غير مباشرة ضد شخصية أساسية بالنسبة للمجتمع مثل دوغين؛ إذ تُبعث رسالة تحذيرية إلى هؤلاء «القوميين» الذين قد يأملون في الاستفادة سياسياً من حرب بوتين -وفي الأثناء ذاتها، يمكن تأجيج الحماسة القومية عبر إلقاء اللوم على الأوكرانيين في ذلك الهجوم الإرهابي. وقد فعل ذلك جهاز الأمن الفيدرالي الروسي؛ إذ أشار بأصابع الاتهام في جريمة القتل هذه إلى امرأة أوكرانية يُزعم انتماؤها إلى فوج «آزوف» القومي الأوكراني، والتي وفقاً للأمن الروسي قد فرّت هاربة إلى إستونيا بعد مقتل داريا دوغين.
بادر الموالون لبوتين في البرلمان المُروّض بالمطالبة بالانتقام على الفور، ووصف البعض جريمة القتل بأنها «هجوم على العالم الروسي بأكمله». ورغم أن بوتين نفسه أحجم عن مثل هذا الخطاب، فإن التعازي الرسمية التي أرسلها إلى دوغين وزوجته تُظهر أن «اتهامات» الأمن الروسي، العارية عن الأدلة، وصيحات الثأر المصاحبة لها، قد حازت رضاه. ومن المناسب سياسياً إيجاد سبب لاتهام أوكرانيا، وفوج «آزوف» بصفة خاصة، بالإرهاب: تمارس أوكرانيا ضغوطاً على الحكومات الغربية لإعلان روسيا دولة إرهابية، في حين تستعد روسيا ووكلاؤها لمحاكمة استعراضية ضخمة لجنود «آزوف» الأسرى في مدينة ماريوبول المحتلة، تلك الخطة التي قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إنها تجعل من المستحيل إجراء أي مفاوضات مع بوتين.
وقد نفى فوج «آزوف» والحكومة الأوكرانية تورطهما في قتل داريا دوغين، قائلين إنهما لن يلجآ أبداً إلى الأساليب الإرهابية لهزيمة الغزاة. في الوقت نفسه، أكد خبراء الدعاية في أوكرانيا أن «الرجل المسن المجنون» دوغين ليس مهماً بما يكفي ليكون هدفاً لهم -وهي حُجة مختلفة بصورة ملحوظة. ولكن، على غرار جهاز الأمن الروسي ومعسكره الداعم للحرب، فإن المجتمع الأوكراني ليس موحداً في فهمه للقتال ضد روسيا. وليس من المستغرب أن نزعم أن بعض الأوكرانيين ربما يحاولون مطاردة القوميين الروس البارزين لأن هؤلاء القوميين أكثر انخراطاً واستفادة من الحرب من بوتين ذاته.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»