جيداديا بريتون بوردي
TT

الرابع من يوليو يُضخم الانقسام الأميركي

يتردد صدى الألعاب النارية عالياً في الرابع من يوليو (تموز) في بلد منقسم. ومن الناحية النظرية، فإن هذا العيد الوطني يُمثل ما يجمعنا هذا البلد، بعيداً عن كل الخلافات. وفي الممارسة العملية، فإنه يُضخم الانقسام الأميركي. تُضفي سنة 1776 التي يُحتفل فيها بعيد الاستقلال، اسمها على مشروع ترمبيست 1776، وهو رد سريع على مشروع 1619. إن فكرة الوطنية المجردة تجازف بالتحول إلى علامة حزبية: في عام 2019، قال 76 في المائة من الجمهوريين و22 في المائة فقط من الديمقراطيين إنهم «فخورون للغاية» بكونهم أميركيين، وفقاً لمؤسسة غالوب.
في استطلاع حديث أجرته مؤسسة «كوينيبياك»، سأل الأميركيين عما إذا كانوا يحاربون أو يفرون إذا تعرضت البلاد للغزو: قال 68 في المائة من الجمهوريين إنهم سيبقون ويقاتلون، مقابل 40 في المائة من الديمقراطيين. ورغم أن مثل هذه التساؤلات لا يمكن إلا أن تكون تقديرية، فإن هذا السؤال يشير إلى أن بعض التقدميين ليسوا على يقين من أن بلادهم تستحق الإنقاذ، أو على الأقل تستحق المجازفة بحياتهم لأجل إنقاذها.
غالباً ما يقول المحافظون إنَّ الليبراليين لا يحبّون هذا البلد، وتوحي هذه الأرقام بأن لهم وجهة نظر معتبرة. وفي الدوائر التقدمية، فإن ادعاء الوطنية ليس أكثر من تيمة مثيرة للدهشة في أفضل تقدير. مع حلول الذكرى السنوية الخامسة والأربعين لإعلان الاستقلال في بلد ذي أعلى معدل للسجن في العالم، وحيث إن نصيب الفرد من الانبعاثات الكربونية مرتفع إلى عنان السماء، وحيث ينتشر وباء العنف المسلح وحظر الإجهاض عبر جزء كبير من الخريطة الأميركية، فإن الاستياء التقدمي يتمتع بجاذبية واضحة.
لكن التقدميين يحتاجون إلى الوطنية، أكثر من أي وقت مضى في ظرف حيث الغضب واليأس مفهومان. نريد أن نجعل العالم أفضل بأضوائنا، ولكي نفعل ذلك نحتاج إلى ديمقراطية أقوى. إن الوطنية بالروح الصحيحة تعمل على تعزيز الثقة المدنية والتضامن اللذين تحتاج إليهما الديمقراطية.
لا ينبغي أن تكون الوطنية ذريعة للتغاضي عن الإخفاقات والجرائم - بل على العكس. إنها تضيف المسؤوليات، وحتى الأحزان، إلى حياتنا. ولكنها تعزز أيضاً المودة، وكذلك الكبرياء.
الوطنية التي نحتاج إليها هي وطنية الخامس من يوليو، الذي كان يوماً يحتشد فيه أنصار إلغاء عقوبة الإعدام، خصوصاً في ولاية نيويورك. وقبل الحرب الأهلية، كان الخامس من يوليو بمثابة رد على النفاق الذي أثاره يوم الاستقلال، الذي بشر بالحرية في بلد عامر بالرق العرقي. وكان أيضاً بالنسبة لكثير من مناهضي إلغاء عقوبة الإعدام يوماً لاستكمال العمل التأسيسي للتحرر، والبناء على إرث معيب، ولكنه راديكالي ومُمدّد.
لا شك في أن بعض المتطرفين، مثل ويليام لويد غاريسون، تبنوا رؤية قاتمة تماماً للبلاد. فقد أدان غاريسون الدستور باعتباره «عهداً مع الموت واتفاقاً مع الهاوية»، وأعلن أنه «يخجل من بلده». ولكن آخرين مثل فريدريك دوغلاس، الذي كان أكثر تعاطفاً مع أهوال الحياة الأميركية، استنتج أن السياسة الأميركية لم تكن مجرد مصير كئيب، بل إنها أيضاً بوتقة للانصهار والتحول.
في خطاب 5 يوليو الشهير، غالباً ما تساءل دوغلاس: «ماذا هنالك للرقيق في يوم الرابع من يوليو؟»، ورغم التنديد بالجرائم الوطنية بعبارات مهولة، فقد امتدح إعلان الاستقلال باعتباره النقطة المحورية «لمصير الأميركيين الذي لم يتطور بعد». فقد أطلق دوغلاس على الحرية والمساواة وصف «مبادئ الإنقاذ»، التي ما زال بوسع البلاد أن تجعلها حقيقية.
إن كثيراً من الإنجازات التقدمية ترجع جذورها إلى أسلوب الوطنية الذي ساد في الخامس من يوليو. عندما قدّم الرئيس ليندون جونسون حجة لصالح قانون حقوق التصويت في بث تلفزيوني وطني قبل الكونغرس سنة 1965، أطلق على الولايات المتحدة وصف «أول دولة في تاريخ العالم تُؤسس لغرض»: إنشاء مجتمع حر من المواطنين المتساوين. وكان هذا الغرض مقياساً للفشل وكذلك النجاح.
وفي بلد حيث «التحرر مجرد إعلان وليس حقيقة»، حذر جونسون من أنه إذا لم تُعالج مسألة عدم المساواة، فإن أميركا «سوف تفشل كشعب وكأمة».
كما وصف المبجل الدكتور مارتن لوثر كينغ الابن، مبادئ التأسيس الأميركية بأنها «سندات إذنية» جاءت مستحقة، وحث البلاد على «النهوض والعيش وفقاً للمعنى الحقيقي لعقيدتها».
هذه النسخة من الوطنية تربط بين انتقاد إخفاقات البلاد والالتزام بتغييرها. فهي تتمسك بمبادئ الحرية والمساواة لأنهما على حق، ولأنهما ملك للأميركيين، وهما يعبران عنهم أيما تعبير. وهي تعالج أسوأ جوانب أميركا، ليس كأعداء يجب القضاء عليهم (كما في كثير من «حروبنا» الداخلية حول هذا أو ذاك)، بل كما نقترب من صديق أو فرد من العائلة ضل طريقه.
ومن هذا المنطلق، فحتى أشد اللوم قسوة، أو قائمة الأخطاء التي لا هوادة فيها، تأتي مع الالتزام بالإصلاح والشفاء، وبناء بلد أكثر عدلاً وأخلاقاً. وهي تستلزم أيضاً إيماناً عملياً: وطالما كان التغيير ممكناً، فإننا مدينون لبعضنا بالمحاولة.
قد تبدو هذه كأنها نغمات لطيفة من زمن أكثر سذاجة. ألا نعرف الآن أكثر مما عرفته الأجيال السابقة عن قسوة وتعقيد التاريخ، وعن كثافة التفوق الأبيض في الجمهورية الأولى، وعن التسويات الدستورية مع العبودية؟ ألم نغرق في مشاعر الرضا عن الوطن؟ ولكن هذا خطأ، وضيق الأفق إلى حد مُحرج. ونحن لا نعرف عن الظلم الأميركي أكثر من كينغ، أو جونسون، ابن شرق ولاية تكساس المتعصب، الذي أصبح بطلاً مُعقداً، وإنما فعال في الدفاع عن الحقوق المدنية. فلم يكن هناك أي شعور بالرضا عن الذات في حبهم الوطني.
وأصروا على أنه يتعين على كل أميركي تحمل بعض المسؤولية عن جرائم وإخفاقات بلده، سواء استفاد أم عانى منها شخصياً. وبالنسبة لجونسون وكينغ، فإن الجميع يستحقون أن يفخروا بالتقدم الأميركي نحو العدالة. كانت الوطنية مهمة عملية: تقدير وحفظ الخير، والعمل على تغيير الشر، وتذكر أن جزءاً من الخير في أي بلد هو أن المواطنين قادرون على تغييره. ولم يأتِ الجهد الوطني بأي ضمان للنجاح، ولكنه كان التزاماً على الرغم من ذلك - واجب مماثل لما دعاه الفيلسوف ويليام جيمس ذات مرة «المعادل الأخلاقي للحرب».
اليوم تواجه أميركا تهديدات تهدد رفاهيتها الوطنية، بل وحتى قدرتها على البقاء: تغير المناخ، وعدم المساواة العرقية، وحكم القلة الثرية، والانهيار الاقتصادي لمناطق بأكملها. لكن العدو ليس غزواً: وهذه الأزمات بطيئة الحركة تضعنا في مواجهة بعضنا. نحن نعيش في الأحياء والمناطق المعزولة اقتصادياً وفكرياً، نتبادل الاتهامات بالتطرف وسوء النية. وفي ظل هذه الظروف فمن الصعب أن نجد خيوطاً مشتركة. في مرحلة ما، يسأم الليبرالي من مقولة: «نحن أفضل من ذلك»، في حين يبدو أننا لسنا كذلك على الإطلاق.
لكن هناك شيئاً أبعد من عبارة «نحن أفضل من ذلك»، ومن نسختك المفضلة لمقولة غاريسون «عهد مع الموت واتفاق مع الهاوية». فالوطنية التقدمية تبرر المجازفة والتضحيات في محاولة لخلق دولة تستحقها. والولاء للبلاد، في هذا الضوء، يعني الإيمان بأنكم والمواطنين الآخرين لا يزال بوسعكم بناء سبل أفضل للعيش معاً.
الإحباط المتنامي مثل التقاعس عن العمل المناخي، وانتشار الأسلحة النارية، وتآكل الحرية الإنجابية، يضرب بجذوره في الطرق التي يمنع بها النظام السياسي رأي الأغلبية من الحكم من خلال مجلس الشيوخ، والمجمع الانتخابي، والمحكمة العليا. كان لزاماً على التحول السياسي السابق، مثل «الصفقة الجديدة» وحركة الحقوق المدنية، تغيير السلطة السياسية، وجعل البلاد أكثر ديمقراطية لكي تكون أفضل. ولأن الديمقراطية قوة، والسلطة مخيفة وخطيرة، فإن الثقة السياسية والرؤية السخية للبلاد تشكل أهمية خاصة في جعل البلاد أكثر ديمقراطية.
وعلى المنوال نفسه، فإن التغيير السياسي السلمي يصبح أكثر صعوبة بين الناس الذين يخافون ويفقدون الثقة في بعضهم، والذين يشعرون بأنه لا يمكن التسامح مع الطرف الآخر في الاحتفاظ بالسلطة. فقط رُبع الجمهوريين، وخُمسا الديمقراطيين، يعتقدون أن ناخبي الحزب الآخر يأخذون مصالح البلاد على محمل الجدية. وبشكل عام، يشتبه الأميركيون بأنهم يعيشون بين أشخاص يحاولون تدمير البلاد، بل وربما تدميرهم أنفسهم.
هذه هي معضلة أميركا. هي في في حاجة إلى تغيير أساسي، لكن لا نستطيع التسامح في تحقيقه إلى جانب المواطنين الذين يشكلون أيضاً أعداءنا الحزبيين. ولكن أيضاً لا نستطيع النجاح من دونها. ربما نحتاج إلى دعم بعضنا بعضاً، وموافقة بعضنا بعضاً وتعاونه، بكل تأكيد.
إن الوطنية تخفف من المأزق. فهي تؤكد أن الغضب والنقد وراءهما عاطفة المودة والولاء. فهي تنقل ما عرضه والت ويتمان بوصفه الوعد الديمقراطي: «لن أقبل بأي شيء لا يستطيع الجميع أن يقابله بالشروط نفسها».
ومع الثقة التي يمكن أن يدعمها هذا الوعد، من الممكن أن نسمع، وربما نُرحب، بأفكار مُعقدة وناقدة - دعم قواتنا المسلحة مع انتقاد حروب وسياسات معينة في الخارج، ونبذ عدم المساواة، لأنه يعني أن البلد لا يُطالب بما يكفي من نفسه. ومن دون هذه الثقة فإن أي خلاف قد يصبح وجودياً، وفي عالم السياسة، فإننا نتحول بين الكفاح من أجل حياتنا ومحاولة تجاهل بعضنا بعضاً تماماً.
قد يرفض القراء أي إيحاء بأن التقدميين يحتاجون إلى مزيد من الوطنية. ويحاول الديمقراطيون تحميل دونالد ترمب مسؤولية محاولته سرقة انتخابات 2020، في حين أن الجمهوريين متخبطون أو ربما أسوأ. ألا يعتبر إنقاذ الديمقراطية الأميركية نقطة تحول للوطنية؟ أجل، صحيح بما فيه الكفاية؛ ولكن في زمن الانقسام العميق وعدم الاستقرار، لا يكفي أن يكون الحزب هو الذي يصر على اتباع القواعد.
إن القواعد عبارة عن خلاصة لصورة أعمق لكيفية الحياة معاً. وإنقاذ الديمقراطية - أو ربما تحقيقها - سوف يتطلب إقناع الناس بما يكفي لتبني رؤية البلد الذي يستطيع فيه الجميع التصويت، وفرز الأصوات، وحكم الأغلبية. وفي نهاية المطاف، تعتمد قواعدنا ومؤسساتنا على تمسكنا بالعيش في ظل سياسة مشتركة. وبهذا الارتباط، سواء ربح أو خسر، فإن كثيراً من الأمور تصبح ممكنة. ومن دونها، لا شيء يدوم طويلاً.