سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

قضية تنشغل بها القاهرة... ولكن طوكيو أكثر

لا بد أن الحكومة في القاهرة تتمنَّى لو كانت تحكم الشعب الياباني، ليس بالطبع لأنها ضاقت بشعبها إلى هذا الحد، ولكن لأنها لا تزال تدعوه إلى أن ينضبط إنجابياً، كما هو حاصل في اليابان، ولكنه يأبَى أن ينضبط في هذه المسألة بالذات، رغم أن هذا الانضباط في اليابان زائد على الحد المطلوب جداً كما سنرى حالاً!
فالإحصاءات السكانية المتوالية تقول إن المصريين يزيدون ما يقرب من مليونين في السنة الواحدة، وهذا أمر يقلق الحكومات المتعاقبة في قاهرة المعز، خلال السنوات الأخيرة أكثر مما يقلقها أي شيء آخر، ولم تفلح كل الطرق التي جرى اعتمادها لضبط هذه الزيادات في فعل شيء محسوس، ولا يزال الإنجاب الزائد على الحد الطبيعي يتوالى دون أمل في توقفه في الأمد الزمني المنظور!
وقد قيل كلام كثير في هذا الشأن، ولا داعي لتكراره سواء على مستوى الأسباب أو على مستوى الحلول، اللهم إلا إذا طرأ شيء جديد يمكن أن يقال!
وما يدعو إلى المقارنة بين مصر واليابان في هذا الملف أن عدد السكان في البلدين متقارب، فكلاهما تجاوز عدد سكانه المائة مليون بعدة ملايين، ولكن اليابانيين أكثر قليلاً. وهناك سبب آخر هو أن بعثة يابانية كانت إحدى بعثتين كانتا قد جاءتا إلى القاهرة في القرنين السابقين على هذا القرن، وكان الهدف هو البحث في العاصمة المصرية عن إجابة لسؤال محدد!
كانت البعثة الأولى يابانية، وكانت قد توجهت نحو مصر في ستينات القرن التاسع عشر، وكانت تريد أن تفهم سبب النهضة التي كان محمد علي باشا قد أحدثها في البلاد، وكان أبناؤه وأحفاده من بعده قد ساروا على ذات الطريق، ولكن بدرجات مختلفة طبعاً على مدى قرن ونصف القرن من الزمان، وكان ذلك بدءاً من محمد علي نفسه في عام 1805 إلى حفيده الملك فاروق في عام 1952!
وليس معروفاً إلى الآن ما إذا كانت البعثة قد عادت إلى بلادها بإجابة واضحة، وما إذا كانت الإجابة التي عادت بها قد أسهمت في صنع اليابان التي نعرفها اليوم أم لا! ولكن ما هو ثابت أنها قد جاءت تحمل سؤالاً وأنها قد رجعت تحمل إجابة!
وكانت البعثة الثانية كورية جنوبية، وكانت قد جاءت بعد الأولى بمائة سنة، وكان ذلك في أيام جمال عبد الناصر، وكان عبد الناصر قد اعتمد خطة خمسية للتنمية لأول مرة في البلاد، وكان الكوريون الجنوبيون يريدون أن يتعرفوا على ملامح تلك الخطة، وكانوا يرغبون في نقل معالم التجربة إلى بلادهم!
وليس معروفاً أيضاً ما إذا كانت البعثة الكورية قد عادت بإجابة شافية، وما إذا كانت الإجابة التي عادت بها قد أسهمت بنصيب في صنع كوريا الجنوبية التي نعرفها في هذه اللحظة! ليس معروفاً على وجه الدقة، ولكن المعروف أنها جاءت كسابقتها تحمل سؤالاً، وأنها قد طارت إلى بلادها وفي أوراقها إجابة!
وفي كل الأحوال، فإن الواضح أن القاهرة في حاجة هذه الأيام إلى بعثة منها تطير إلى طوكيو، وأن السؤال الذي سيكون عليها أن تحمله ليس متصلاً بالنهضة الكبرى التي صنعتها اليابان، فهذه نهضة أسبابها معروفة ومعلنة وليست سراً على كل الذين يبحثون عن إجابة عن خلفياتها!
السؤال سيكون عن هذا الانضباط الإنجابي التلقائي في اليابان، وعن أسراره، وعن دوافعه لدى المواطن الياباني العادي، لأن الحكومة هناك لم توجه بشيء مما ألزم مواطنوها أنفسهم به، ولكنه التزام عفوي دون سبب مفهوم يكشف عن فلسفته في عرف المواطنين جميعاً، ثم في عرف كل مواطن على حدة!
وما جرى أن اتفاقاً غير مكتوب قد وقّع عليه اليابانيون دون استثناء، وهو اتفاق ينص على خفض الإنجاب إلى الحدود الدنيا، بل إلى ما دون هذه الحدود الدنيا بكثير، فكانت النتيجة أن سكان البلد يتناقصون في كل سنة ولا يزيدون مواطناً واحداً!
وفي آخر تعداد سكاني تبين أن اليابانيين نقصوا 644 ألفاً خلال السنة الماضية وحدها، وتبين أن هذا النقص يتكرر بأعداد مختلفة للعام الحادي عشر على التوالي، ولكن نقص 2021 هو النقص الأكبر من نوعه منذ عام 1950!
ولا توجد إجابة واضحة عن السبب وراء ذلك، ولا يوجد تفسير، ولكنها ظاهرة غير مسبوقة في العالم، لأن دولاً في العالم قد يزيد عدد سكانها ببطء، ولأن دولاً أخرى في العالم قد تسعى إلى زيادة في سكانها بأعلى من الوتيرة الحاصلة، ومن بين هذا الدول روسيا على سبيل المثال، وهي ترصد مكافآت وتضع حوافز للذين ينجحون في إنجاب المزيد من الأطفال، أما هذه الحالة في اليابان فهي فريدة حقاً!
ولأنها تحولت من حالة إلى ظاهرة مقلقة للغاية، فإن الحكومة اليابانية قد جاء عليها وقت قررت فيه أن تحسب الحكاية بالورقة والقلم، وأن ترى ماذا سيحدث لو أن الأمور مضت في قضية الإنجاب لدى الأسرة اليابانية على ما تمضي عليه في الوقت الحالي!
وكانت الحقيقة التي كشفت عنها حسبة الورقة والقلم في طوكيو حقيقة مفزعة، وكانت ولا تزال مخيفة للغاية في نظر صانع القرار الياباني!
كانت مخيفة ومفزعة لأنها أشارت إلى ما لم يكن في حسبان أي ياباني، وكانت مخيفة ومفزعة لأنها قالت إن بقاء الإنجاب بمعدله الحالي له معنى واحد، وهذا المعنى هو أن آخر ياباني سوف يختفي من فوق وجه الأرض بعد 800 سنة من وقت إجراء الحسبة، وكان ذلك قبل سنوات معدودة على أصابع اليد الواحدة!
ولأنها حقيقة مخيفة ومفزعة بالنسبة لأجيال المستقبل بالذات، فإن القضية شغلت الحكومة اليابانية جداً، وراحت تبحث عن حل ينقذ البلد مما هو ذاهب إليه، لو استمر الإنجاب بهذا المعدل المتراجع، وهداها تفكيرها إلى إنشاء وزارة قبل سنوات قليلة من أجل مهمة واحدة، وكانت هذه المهمة هي تشجيع اليابانيين على الإنجاب بكل وسيلة ممكنة!
ولكن من الواضح أن هذه الوزارة التي لا مثيل لها في أي دولة لم تنجح في تحقيق مهمتها، والدليل هو هذا التعداد الذي يقول إن عدد اليابانيين تراجع أكثر من نصف مليون في السنة الماضية وحدها!
ولا تعرف لماذا أبدى إيلون ماسك، مالك «تويتر» الجديد، اهتماماً مفاجئاً بالموضوع؟! فهو قد غرّد يقول إن اليابان سوف تفنى إذا استمر بها الحال الإنجابي على ما هو عليه، وما يقوله ماسك ليس جديداً لأن حسبة الورقة والقلم قالت به قبل سنوات، وتم إعلان الحسبة على اليابانيين وعلى غيرهم في وقتها. ومن يومها والبحث يجري عن شيء يشرح أو يفسر أو يعلل ولكن دون جدوى، فالتراجع يزيد والسكان في اليابان يتناقصون ولا تفسير واضحاً حتى اللحظة!
وإذا كان الياباني قد اشتهر بحب العمل إلى حد التقديس، فهل هذا الحب مثلاً هو الذي يعطله عن التفكير في الإنجاب، وهل يرى في الإنجاب ما يعوقه عن ممارسة حب العمل في حياته؟! وبمعنى آخر هل يخشى أن ينجب أطفالاً ليسوا على الدرجة نفسها من حب العمل، فيتسبب في تأخر بلاده من حيث لا يقصد؟! ربما، فلا أحد يعرف السبب!
إن عدم وجود تفسير مقنع هو الذي يدفعنا إلى أن نتبنى تفسيرات خيالية من هذا النوع، ويدفعنا إلى أن نشارك الحكومة اليابانية حيرتها وهي تبحث عن السبب!
والمشكلة أن حكومة اليابان تجد نفسها في الموقف الذي وجد طارق بن زياد نفسه فيه، عندما عبر إلى الأندلس يفتحها في القرن الأول الهجري، فكان العدو من أمامه والبحر من خلفه!
إن المصير الذي ينتظر اليابان بعد ثمانية قرون، إنما يبدو كأنه شبح أمام كل حكومة يابانية جديدة، والتراجع المتواصل في السكان يبدو لها شبحاً يطاردها من خلفها، ولا شيء تملكه سوى أن تتعامل مع ما هو وراءها، بينما تخشى غاية الخشية ما هو ماثل أمامها، حتى لو كان ماثلاً على مسيرة قرون ثمانية من الآن!
ولم يكن توماس مالتوس، صاحب نظرية السكان الشهيرة، يتصور أن ما قاله عن تدخل الطبيعة لإحداث التوازن السكاني في العالم، لن ينفع في تفسير ما تعيشه اليابان. كان مالتوس يقول إن السكان إذا زادوا في الأرض على الموارد التي تكفيهم، فإن الحروب والأمراض والأوبئة تقدم الحل، ولكنه لم يكن يتخيل أن المواطن الياباني سوف يزايد عليه وعلى نظريته التي لا تزال محل امتعاض من كثيرين!