غسان شربل
رئيس تحرير «الشرق الأوسط»
TT

مخاض خطر والعيادة الدولية معطلة

لدينا مريضٌ في حالة خطرة وينزفُ بغزارة. ولدينا غرفةُ عنايةٍ فائقة وحيدة ومعطلة. هذا ما يجعل الحربَ في أوكرانيا أخطر من حرب فيتنام، والحرب الكورية، وأزمة برلين، وأزمة الصواريخ الكوبية، وغزو أفغانستان، وغزو العراق.
لم يكن عالم المعسكرين مطمئناً، لكنه كان يحتفظ لنفسه بصِمَام أمان. غرفة عناية فائقة في عيادة دولية موضوعة في عهدة جراحين أحدهما سوفياتي والآخر أميركي. وكان يكفي تحريك الخط الأحمر بين البيت الأبيض والكرملين وتبادل شيء من التنازلات لتعاودَ أجهزةُ غرفة العناية الفائقة العمل. وكان يكفي أن يتَّفقَ الجرَّاحان ليتفادى المريضُ الموت. بقرار أميركي - سوفياتي كان يمكن إطفاءُ أي حريق على سطح الكوكب، خصوصاً يوم كانت الصين تتلوَّى على وقع «الثورة الثقافية» و«عصابة الأربعة».
وفي ذلك العالم كانت لدى واشنطن وموسكو رغبةٌ أكيدةٌ في تلافي أي صدام مباشر بين الجيشين المتكئين على ترسانة نووية واحترام الخطوط الحمر في مناطق نفوذ كل منهما. ذات يوم في صيف 1982 وكانت قوات آرييل شارون تطوّق بيروت، تداول ياسر عرفات وجورج حاوي ومحسن إبراهيم في أحد ملاجئ بيروت في الأمل الأخير المتواضع. ذهب حاوي إلى السفارة السوفياتية وطلب من السفير ألكسندر سولداتوف أن ترسل بلاده قطعة حربية إلى البحر المتوسط قبالة بيروت لرفع معنويات حلفائها المحاصرين. لفته سولداتوف إلى استحالة ذلك ومخاطر الانزلاق إلى نزاع مع أميركا التي توفر دعماً صارماً لإسرائيل. ابتلع حاوي خيبته وخفض سقف توقعاته. اقترح الاكتفاء بأن ترسل موسكو سفينة لنقل الجرحى من بيروت المحاصرة لكنه عاد خاليَ اليدين. استنتج الثلاثة أن الاتحاد السوفياتي يرسل إشارات الضعف. استنتج عرفات أن واشنطن هي حاملة المفاتيح. وبعد نحو عقد سيوقع «اتفاق أوسلو» في حديقة البيت الأبيض. وبعد أربعة عقود ثمة من تحدث عن إشارات ضعف ترسلها الإمبراطورية الأميركية في ضوء انسحابها الفوضوي من أفغانستان.
في عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي بدت غرفة العناية الفائقة قادرةً على العمل عند الاقتضاء. كان فلاديمير بوتين يحتاج إلى إعادة تأهيل الاتحاد الروسي جسداً وروحاً. وكان عليه أن يغطيَ بالابتسامات والمصافحات برنامجَ الثأر الكبير الذي يرتكز على إعادة تزويد «الجيش الأحمر» بعقيدة المواجهة مع الغرب مفبرك «الثورات الملونة» ومهندس تطويق روسيا ببيادق حلف الأطلسي. ضخَّ بوتين في عروق المجتمع والجيش فكرة الحصار الجديد التي يبطنها الغرب وأعاد إلى قوات بلاده هيبة صواريخها وأنيابها.
لم يشعرْ بوتين بقدرته على اعتماد أسلوب قاسم سليماني الذي كان يخترق الخرائط ويقلب موازين القوى فيها من دون اجتياحها. ولم يمتلك صبر شي جينبينغ الذي يفضل انتظارَ الثمرة حتى تنضج مراهناً على جنرال كبير اسمه الوقت. كان هناك من يستبعد أن تنخرط القوات الروسية في الأراضي الأوكرانية. اعتقد هؤلاء أنَّ الرأي العام الروسي لن يقبل حرباً أهلية داخل البيت السلافي المتشابك التواريخ. وكان هناك أيضاً من اعتبر أنَّ أوكرانيا لن تتأخر في رفع الراية البيضاء وأنَّ غرب ما بعد «كورونا» والانسحاب الأميركي من أفغانستان سيفضل تقبل الوجبة المسمومة على إحراق يديه في المرجل الأوكراني.
لا مبالغة في القول إنَّ عالم ما بعد أوكرانيا سيكون مختلفاً. وإنَّنا نعيش حالياً مخاضاً بالغ الخطورة. لكننا لا نزال في بدايات المخاض ونملك من الأسئلة أكثرَ بكثير مما نملك من الأجوبة. هل صحيح أنَّ شمسَ الغطرسة الأميركية تغرب، وأن موقع واشنطن سيتراجع بعدما ثبت فشلُها في إدارة العالم على قاعدة القطب الواحد؟ وهل صحيح أنَّ لعبة إدارة العالم ستدور في المرحلة المقبلة داخل المثلث الأميركي - الروسي - الصيني؟ هل العالم في الطريق إلى سباق تسلح محموم، وهل يستطيع الاقتصاد الروسي القيامَ بما عجز عنه الاتحاد السوفياتي في هذا المضمار؟ وهل الرقص المتواصل على صفيح ساخن يناسب البرنامج الصيني الكبير الذي يتقدَّم تحت عباءة النمو الاقتصادي ومكافحة الفقر، وجاذبية أحلام مشروع «الحزام والطريق»؟ وماذا عن أوروبا وخصوصاً عن الدول التي أدمنت استيرادَ الغاز الروسي، وترى اليوم نفسها أمام دعوات القطيعة مع الصادرات الروسية ودعوات رفع ميزانيات التسلح؟ وماذا عن الهند هذا العملاق الآسيوي القلق الذي لا يهوى المقامرة؟ وماذا ستفعل إسرائيل إذا طال الصراع؟ وأين ستقف إيران داخل المثلث بعد العودة إلى الاتفاق النووي؟
مخاضٌ ربما يؤدي إلى إعادة توزيع المقاعد في نادي الأقوياء. أسئلة أيضاً عن العولمة والنموذج الاقتصادي الغربي وأسعار المواد الأولية والطاقة والاستثمارات والعقوبات. وعن موقع الدولار واليوان والروبل واليورو. ترتيب العملات يشير عادةً إلى ترتيب الجنرالات.
بدايات مخاضٍ مريرٍ وطويلٍ في عيادة دولية معطلة. هل سيتمكَّن العربُ من العثور على موقع لهم في عالم ما بعد أوكرانيا؟ هل سيتمكنون من تشكيل قوة اقتصادية مؤثرة مرفقة بإرادة سياسية في إبقاء القنوات مفتوحة مع أطراف المثلث الجديد فضلاً عن أوروبا؟ قوة تتعامل مع أضلاع المثلث على قاعدة المصالح المتبادلة ومناقشة الهواجس والتحديات والرد عليها بما يضمن الأمن والاستقرار.
وفي التعامل مع مخاض دولي صعب لا يمكن اعتبار الانتظار أفضل مستشار. على الدول العربية أن تبادر إلى الالتفات إلى اقتصاداتها وتماسك مجتمعاتها والقدرة على حصر أضرار المنعطف الأوكراني الخطر. صيانة الخرائط والسلم الأهلي وصيانة القدرة على حفظ شبكة علاقات منوعة تحفظ المصالح. مصلحة ليبيا تقضي ألا تنتظر نتائج المخاض في ظل حكومتين متنازعتين. ومصلحة اليمن أن يلتقط اليمنيون الفرصة التي وفرتها مشاورات الرياض لفتح صفحة حقيقية تعلن ترميم العلاقات داخل البيت اليمني، وعودة الجميع إلى الإقامة تحت سقف دولة تتَّسع للجميع. ويمكن اعتبار تشكيل المجلس الرئاسي بدعم سعودي وترحيب عربي ودولي، انطلاقة لذلك.
ومن المهم أيضاً التقاطُ الفرصة في سوريا والعراق ولبنان. ليس للعرب مصلحة في أن تكونَ بلادُهم ملعباً لعملية استقطاب حادة يدفعون خلالها ثمن المبارزات الكبرى داخل المثلث الجديد.
المشهد الأوكراني مخيف. روسيا تمطر أرضاً أوروبية بالصواريخ وتستعد لتقرير مصير جزء من أوكرانيا. وجنود أوكرانيون يستهدفون الدبابات والطائرات الروسية بأسلحة طازجة وصلت من مخازن حلف «الناتو». اتهامات بايدن لبوتين تؤكد أنَّ غرفة العناية الفائقة معطلة في العيادة الدولية. والصين التي تدعى إلى تبديد الغموض تضاعفه. منعطف خطر وما أصعبَ القيادةَ عند هذا النوع من المنعطفات!