محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

مقدمات لنتائج قاتمة!

الأزمة السياسية العربية سوف تطول وقراءة الواقع حولنا يقول إن الانزلاق إلى حروب قد يكون وشيكا، ليس بين الرؤوس الكبيرة مثلا في أوكرانيا وفي مكان آخر تتناقض فيه مصالح القوى الكبرى، بل حروب محلية بالنيابة، وفي الغالب أهلية ومعظمها في منطقتنا العربية. ليس الخلاف على الإجابة عن سؤال هل تقع تلك الحروب؟ ولكن السؤال متى تقع وأين؟ لنبدأ بما أصبح حقيقة في ليبيا فالانتخابات الليبية لن تتم كما خطط لها. لم يكن ذلك خفيا منذ زمن لمن يقرأ المقدمات، ففي 9 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي نشر كاتب هذه السطور في هذا المكان مقالا بعنوان (الانتخابات في المجتمع المنقسم) وجاء النص حول انتخابات ليبيا كالتالي:
(لا يحتاج الأمر إلى منجم للقول إن الانتخابات الليبية الموعودة لن تحدث)! و ها هي لن تحدث، الأزمات القائمة تنزلق سريعا إلى حروب. الأسباب قديمة وحديثة، لقد سحق النظام الليبي السابق كل إمكانية أن يتكون مجتمع سياسي شبه سوي في ليبيا لمدة أربعة عقود، فمن تحزب خان، و قول (القائد) منزه عن أي نقد، وسار معه خوفا أو تزلفا عقول المفروض أن تكون نيرة، وزينت له دربه الزلق حتى أصبح ملك ملوك أفريقيا!، وتسابق إلى خيمته طالبو السلطة، وانتهى الأمر بفوضى مجتمعية في ليبيا تحتاج إلى معجزة لضبطها وتوجيهها في المسار الصحيح وهي القبول بالتعددية واحترام القانون وإمكانية تبادل السلطة أو بناء دولة مدنية!
من فجيعة الليبيين أن بعضهم يصر على إنتاج ما ثبت فساده من خلال ترشيح ابن ( القائد) ليقود في الطريق الدموي نفسه والقمعي مرة أخرى، وتصريحاته في سحق المعارضة وتقديم القرابين من رؤوس الليبيين ما زالت موجودة في تاريخ ليبيا الحديث. أو أشخاص يرشحون أنفسهم بعد الحنث بالوعد الذي قطعوه بأن من يشترك في الوزارة الانتقالية لا يجوز له الترشيح، أو حتى شهوة العسكر للسلطة القابعة في عقول كثير من أهل البندقية والمدفع! بجانب تدخل من قوى كبرى ومتوسطة لها قوة عسكرية إما مباشرة أو موالية، هنا بالضبط يمكن أن تنفجر حرب أهلية بالنيابة بين قوى ليبية لم تعتد على الحوار أو المشاركة. بالضبط كما حدث ويحدث في العراق، فعلى الرغم من إجراء انتخابات قريبة إلى الكمال، فإن الخاسرين حتى الساعة وربما حتى وقت يطول لن يمكنوا السفينة العراقية من الإبحار لأنهم تربوا على سلطة قمعية يرغبون في إعادة إنتاجها، ولن تعدم أن ترى من الشرائح العراقية من (يترحم) على زمن الدكتاتورية السابقة كُرها في الموجود، ولا تخلو الساحة العراقية من تدخل قوى من الجوار كما يفعل النظام الإيراني وإلى حد آخر النظام التركي، فليس هناك مخرج إلا الذهاب إلى حرب أهلية صغيرة أو محدودة أو كبيرة ومنفجرة، المرض نفسه وإن اختلفت أغراضه نجده حولنا في لبنان وسوريا وحتى تونس، أما في السودان فهو يتمثل بأكثر الصور سريالية، مع فقر وعوز ويكاد المتصارعون أن يأخذوه حثيثا إلى التفكك والانحدار كما قال رئيس وزرائه المُعطل عبد الله حمدوك، أما المشهد اليمنى فلا يحتاج إلى شرح؛ فهي حرب من قلة طامعة في السيطرة.
المعضلة في هذا المشهد الفوضوي الواسع هي عدم قبول ثقافي لما هو طبيعي وإنساني، أي القبول بالرأي والرأي الآخر في القضايا السياسية البعيدة عن الحسم الكلي والنهائي، كما تفعل معظم شعوب الأرض، كل فئة ترى أنها تحتكر الحكمة ويتوجب أن يسير الجميع خلفها كما قطيع الغنم.
الأزمات في عدد من البلدان العربية سوف تعيد إنتاج نفسها، بل وقد تنداح إلى الجوار، ولعل العامل المشترك فيها جميعا الفشل في بناء الدولة الوطنية الحديثة والقانونية، وبناؤها ليس سرا غامضا أو عملا عصيا، هناك أمثلة وتجارب في العالم قامت نُخبها بذلك البناء بنجاح. العامل المشترك الثاني في الأزمة العربية هو الاستعانة بالآخر والاستقواء به على الشريك في الوطن، فلولا استقواء «حزب الله» بإيران مالا وتسليحا وآيديولوجيا لاستطاع اللبنانيون ربما حل مشكلاتهم بشكل أفضل وأسلم وأسرع من دفع بلادهم إلى الهاوية، ولولا استقواء قوى مسلحة من إيران في العراق أيضا مالا وسلاحا وآيديولوجيا لاستطاع العراقيون تعويم بلدهم بعد كل تلك النكبات، ولولا استقواء النظام السوري مرة أخرى بإيران وذراعه «حزب الله» وقوى أخرى لاستطاع السوريون أن ينجوا ببلادهم من التهلكة وكذلك في اليمن، بل وحتى في تونس لولا استعانة حزب النهضة الإسلاموي بمن يدعمه من التنظيمات الحركية الإسلامية خارج الحدود، لربما استطاعت النخب التونسية من السير بوطنها إلى مكان أفضل مما وصلت إليه اليوم. كل هذه المجتمعات كانت في أنظمتها السابقة قمعية إلى درجة أن المطالبة بشيء من الحرية هو ترف يوصم صاحبه بالعمالة ويلقى حتفه بالرصاص أو معلقا بمشنقة، أما وقد وجدت (الحرية) فهي تختلط في ذهن المقموعين السابقين بالفوضى!
الأزمة التي يواجهها النظام الإيراني وهي أزمة اقتصادية اجتماعية سياسية تدفعه للتفكير في هوس فرض شروطه على القوى الكبرى وتدفع الأحداث سريعا إلى حرب إقليمية لا فكاك للأزمة دونها، قد تكون محدودة وقد تتسع، ولكنها قادمة بشكل ما وبطريقة ما! يُذكّر المراقب موقف النظام الإيراني المتشدد حاليا بموقف النظام العراقي الذي سقط، قال وزير إعلامه المفوه (سوف نصدر جثث الأميركيين في أكياس من البلاستك) ووصفهم مفاخرا بـ(العلوج)، تفكير خارج المنطق وخارج التاريخ وخارج القدرة، وقتها لم يعدم النظام العراقي وجود جوقة عربية وأيضا من النخب التي تشارك في عزف ما هو شاذ من ألحانه.
أمام هذا التدهور في المشهد لا يبتعد المراقب عن توقع الصدام الذي يلوح في الأفق واحتمال أن تتدهور تلك البلدان إلى المكان الذي تتلاشي فيه الدولة، ومقدماته سقوط العملة، تفشي القمع، سيادة البندقية وذوابات مؤسسات القانون، ونسبة كبرى من فقر الشعب، مثل تلك الأزمات كما علمنا التاريخ لا يحلها النقاش أو أهل العقل، يقوم بمقدمة حلها الحروب، والمنتظر قد يكون قريبا.
آخر الكلام:
من اللافت تلازم كل تلك الأزمات مع الفساد وإثراء القلة!