د. ناصيف حتي
TT

الرئيس الفرنسي... والتحديات الأوروبية

المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الخميس الفائت حمل إعلان رؤية فرنسا، عشية تسلم الرئاسة الدورية نصف السنوية للاتحاد الأوروبي في مطلع السنة القادمة، للتحديات القائمة والجديدة التي تواجه عملية البناء الأوروبي وخاصة لكيفية التعامل مع هذه التحديات بفاعلية.
المؤتمر أيضاً حمل مقترحات الرئاسة القادمة لتعزيز وتطوير آليات الاندماج الأوروبي ولبلورة أفكار ومقترحات لسياسات أوروبية في مجالات طال انتظار ولوجها رغم العوائق القائمة بشأنها مثل السياسة الدفاعية. هذه إلى جانب أفكار أخرى عرضها الرئيس الفرنسي، تندرج تحت عنوان يحظى بأهمية خاصة عند الرئيس الأوروبي النزعة، وهو عنوان «الاستقلالية الاستراتيجية».
وللتذكير فإن الرئيس الفرنسي، بعد أشهر قليلة من انتخابه، عبّر في خطاب له في جامعة السوربون في سبتمبر (أيلول) 2017 عن أهمية وأولوية المضي في عملية البناء الأوروبي. وها هو يعود قبل أشهر أربعة من الانتخابات الرئاسية التي سيخوض غمارها، ولو لم يعلن عن ذلك بعد، لإطلاق برنامج طموح وضروري أمام التحديات التي تواجه الاتحاد الأوروبي.
مرت سنوات عديدة شهدت تباطؤاً في عملية البناء الأوروبي، قياساً بالأهداف التي كان يجري الحديث عنها، لأن الاتحاد الأوروبي أعطى الأولوية لعملية «التوسيع» أو الضم التدريجي لدول شرق أوروبا بعد نهاية الحرب الباردة بتكلفتها الكبيرة على حساب عملية «التعميق» أو تعزيز الاندماج الأوروبي، وذلك لأهداف استراتيجية. فلا تكون هناك على أبواب الاتحاد الأوروبي منطقة من عدم الاستقرار الحاملة لكل سيناريوهات الاضطراب والانعكاسات المختلفة لذلك على الأمن الأوروبي في كل أبعاده.
تأتي الرئاسة الفرنسية في خضم التعامل مع عدد كبير من التحديات منها أزمة الكوفيد بكل تداعياتها. وللتذكير فقد خصصت المفوضية الأوروبية مبلغ مساعدات بأشكال مختلفة (بحدود ثمانمائة مليار يورو) لإنقاذ الاقتصاد الأوروبي. كما تأتي في ظل ازدياد التداعيات الاقتصادية والأمنية لمسألة الهجرة غير الشرعية على الاستقرار الأوروبي، من بوابتي شرق أوروبا، وبالأخص عبر البوابة البولندية ومن شرق المتوسط. ويرى أكثر من مراقب أن ازدياد الهجرة اللاشرعية في مناخ يتسم بازدياد الأزمة الاقتصادية حدة يصب في تعزيز خطاب الانغلاق والتطرف والفوبيا من «الآخر المختلف» في اللون أو الدين أو العرق، وتحميله مسؤولية الأوضاع الصعبة القائمة. من هنا يؤكد الخطاب على ضرورة تطوير التعاون والتنسيق فيما يتعلق بأمن الحدود لمنطقة شينغن. كما تأتي الرئاسة الفرنسية في ظل أزمات سياسية أمنية كبيرة حاملة للكثير من الاحتمالات والتداعيات على حدود أوروبا، منها الأزمة الأوكرانية الروسية التي تلقي بثقلها، ليس فقط على العلاقات الأميركية الروسية، بل الغربية الروسية، وكذلك كل من أزمتي ليبيا وسوريا بكل احتمالاتها في الجوار المتوسطي. يدفع ذلك كله لطرح بلورة سياسة دفاعية أوروبية مشتركة أسوة بالسياسة الخارجية المشتركة، رغم أن صعوبة تحقيق سياسة فاعلة في كل من المجالين الخارجي والدفاعي الأمني تبقى رهينة الإجماع وصعبة التحقيق في حالات، كما دلت على ذلك تجربة السياسة الخارجية، التي يجب أن تتخطى سياسة المواقف وبلورة سياسة الانخراط الفاعل في القضايا الدولية؛ تلك التي تشكل أولويات أوروبية خاصة بعد انتهاء عصر الثنائية القطبية ومعه مفهوم الغرب الاستراتيجي المنضبط والفاعل بقيادة واشنطن كما كانت الحال في مرحلة الحرب الباردة.
صار على أوروبا البحث عن بلورة سياسات ومواقف على الصعيد الدولي قد تلتقي أو تتمايز أو تختلف مع السياسة الأميركية إن لم يكن في الأهداف ففي المقاربات.
جدول أهداف طموحة طرحها الرئيس الفرنسي منها أيضاً التخلص مما وصفه بالحرب الأهلية الأوروبية في إطار اتفاقية ماستريخت حول الشؤون المالية وحول الموازنة الأوروبية التي تبقى دائماً أحد مجالات الخلاف والتوتر في البيت الأوروبي.
يقترح الرئيس الفرنسي دبلوماسية القمم للتعامل بفاعلية مع هذه الملفات، مثل طرحه لقمة أوروبية خاصة في مارس (آذار) القادم لبلورة نموذج جديد، لا يتخلى عن مفهوم التضامن الاجتماعي الأوروبي، ولكنه يهدف إلى بلورة نموذج جديد للاستثمار والنمو الاقتصادي... كما تبدو الأهمية التي تحتلها القارة الأفريقية لأسباب تاريخية وأخرى تتعلق بالجغرافيا السياسية والجغرافيا الاقتصادية لأوروبا من خلال التأكيد على أهمية عقد قمة أوروبية أفريقية في فبراير (شباط) القادم في ظل ازدياد حدة التنافس الأميركي الصيني وكذلك الروسي في القارة السمراء، نظراً لأهمية موقعها، وكذلك إمكاناتها القائمة، وتلك التي يمكن تثمينها.
يلاقي المستشار الألماني الجديد، الذي تولى مسؤولياته بعد السيدة ميركل، الرئيس الفرنسي في رؤيته لمستقبل أوروبا ولضرورة إعطاء أولوية للبناء الأوروبي ولدور أوروبي فاعل دولياً، أو بناء «أوروبا القوة» كما يدعو إلى ذلك الرئيس الفرنسي. ظهر ذلك بشكل خاص خلال القمة الثنائية التي جمعتهما في باريس.
فهل نشهد عودة أو إحياء لدور ما عرف بالقاطرة الثنائية الفرنسية الألمانية في رؤية جديدة لدور أوروبي مستقبلي على الصعيد العالمي. يمر ذلك بالطبع من خلال تعزيز البناء الأوروبي. رؤية دونها الكثير من التحديات أكثرها ضمن البيت الأوروبي ولكنها أكثر من ضرورية كما يرى أصحابها لخدمة المصالح الحيوية الأوروبية على الصعيدين الإقليمي الأوروبي والعالمي.